عن انهيارنا العظيم المتمادي

عن انهيارنا العظيم المتمادي

عن انهيارنا العظيم المتمادي

 تونس اليوم -

عن انهيارنا العظيم المتمادي

بقلم : حازم صاغية

في البرهنة على أنّ الثورات العربيّة لم تفشل، سادت لفترةٍ نظريّةٌ يقودها التفاؤل إلى البؤس. فقد قيل إنّ الحسم النهائيّ للتناقضات يستغرق دائماً أوقاتاً طويلة قبل أن يُكتب النصر وترسو الأمور على خلاص. ولهذا الغرض كان يُستشهد بالثورات الأوروبيّة، لا سيّما ثورة فرنسا في 1789 وثورات 1848.

لشديد الأسف، ليست الصورة على هذا النحو. فقد كان، ولا يزال، الغائب الكبير عن هذا التحليل، الحسَن النوايا، أنّ الثورات الأوروبيّة حصلت من ضمن عمليّة صعود طاولت كلّ شيء: من الدولة والمجتمع والاقتصاد إلى الثقافة والدين والقيم، وبالتالي كان العنف الذي استجرّته والمدى الذي استغرقه انتصارها، أو فشلها، أقرب إلى أزمات النموّ قياساً بحالات التحلّل التي أسفرت عنها الثورات العربيّة المضادّة بعد تداعي الثورات.

لكنّ ما يرقى إلى مصيبة لدينا أنّ ما تكشّف ويتكشّف، ممّا افتتحه إخفاق الثورات، أكبر كثيراً من أن يقتصر على ذلك. فهو يتجاوز كونه تعبيراً عن إحباط التغيير وظفَر التعفّن إلى اعتباره فشلاً لكلّ شيء وفي كلّ شيء. فكأنّنا، والحال هذه، عشنا عشرات السنين ونحن نتحايل ونتجاهل ونتنصّل بحيث تجمّعت الفواتير التي اعتقدنا أنّنا نجحنا في تفاديها، وبات علينا بضربة واحدة أن ندفع الفواتير المتراكمة جميعاً فيما نحن لا نملك شروى نقير.

فانتصار الثورة المضادّة سبب كافٍ لأن يفتح الباب على الخراب، لكنّه وحده أقلّ كثيراً من أن يفسّر مدى الانتشار الذي يشمله هذا الخراب العابر للحدود الوطنيّة، والمصحوب بعمق العنف الدائر، فضلاً عن انسداد الحلول وانعدام الآفاق. ومن دون أن تكون الأحوال الليبيّة أسوأ الأحوال، تبقى بين أكثر المرايا سطوعاً في الدلالة على تراكُب الثورة والحرب الأهليّة والانقلاب العسكريّ والتدخّلات الخارجيّة، فضلاً عن فصاحة تعبيريّة و «دستوريّة» في التدليل على التفتّت الظافر.

والأمر، في عمومه، ليس فشلاً لـ «الحضارة العربيّة» أو «الإسلاميّة»، إذ لا يقول مصطلح فضفاض كهذا شيئاً مفيداً ومحدّداً يخصّ حقبة بعينها. مع ذلك يبقى مدهشاً الحجم الجيولوجيّ لما يحصل.

فكيف يمكن أن يجتمع في منطقة واحدة، وفي المرحلة الزمنيّة عينها، انهيار دول بأمّها وأبيها، وانهيار شعوب تغادر بلدانها بالآلاف المؤلّفة؟ وكيف يمكن أن يتزامن انهيار الأفكار والطوائف والإثنيّات والأحزاب والإيديولوجيّات كأنّها أبراج من قشّ، وننتهي بلا أيّ جواب عن أيّ من الأسئلة الكثيرة؟ وكيف تغدو تدخّلات الدول المحيطة سبباً آخر للاقتتال إذ هذه الدول المتدخّلة تنطوي هي نفسها على العاهات العميقة إيّاها التي تنطوي عليها الدول المتقاتلة، عاملةً على تجنّب انفجارها من خلال تدخّلها؟ وكيف يجتمع في خلفيّة هذا الحدث الملحميّ العاصف بنا، وعلى مدى المنطقة، بلوغ «إنجازاتنا» ما يقارب الصفر في الحرّيّات وتوسيع مصادر القرار، وفي المساواة والعدالة الاجتماعيّة، وفي تمتين النسيج الوطنيّ، وفي الإصلاحات الدينيّة والثقافيّة كما في أحوال النساء؟
وإذا كان لجردة حسابيّة كهذه أن تقول شيئاً فهي تقول إنّ الشجاعة البطوليّة التي أبدتها شعوب الثورات العربيّة لا تكفي بذاتها للتغلّب على هذا المركّب المعقّد والشامل من الانكسارات المسبوقة بانهيارات كامنة، وأنّ ما قد يكون مطلوباً بإلحاح نظرة أخرى إلى الذات، وتقييم آخر لتاريخها الحديث بوجهه المتلقّي للاضطهاد ووجهه المنتج له، من فهمها التاريخيّ لنظام القرابة العصبيّ إلى استطالاته الإمبراطوريّة، العربيّة والإسلاميّة، ومن فهم السياسة وإلحاح الحرّيّة وضرورة الدولة والعلاقة بالآخر إلى إدراك أهميّة الفرد وانبناء الموقف الأخلاقيّ على هذا الإدراك، ومن الانتباه إلى العالم وعضويّتنا فيه إلى الانتباه إلى مسؤوليّتنا حياله التي تقابل مسؤوليّته حيالنا...

وإذا جاز نقد الخارج وتقصيره وأنانيّته، وهو جائز بالطبع، تقدّم هذا النقد على نحو موازٍ لقيامنا نحن بواجباتنا حيال أنفسنا، قبل أن تكون حيال العالم. ذاك أنّ اتّهامه بعدم إنقاذنا لا يعني شيئاً إلاّ بالتناسب مع إنقاذنا أنفسَنا في ظلّ فهم كونيّ للعالم يناظر مطالبتنا له بأن يفهمنا. فإذا عزفنا عن مسؤوليّتنا وطالبناه بمسؤوليّته كنّا كمن يطلب الشفقة أو يطلب الإعالة، والعالم ليس شفوقاً ولا معيلاً.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن انهيارنا العظيم المتمادي عن انهيارنا العظيم المتمادي



GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 07:47 2021 الأحد ,05 كانون الأول / ديسمبر

تعيير «الليبراليّين اللبنانيّين» المسموم

GMT 08:18 2021 الأحد ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها...

GMT 07:51 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تتغيّر سوريّا و«تعتدل»؟

GMT 08:13 2021 الأحد ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان الـ 2021 غير لبنان الـ 89

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 00:00 2016 الخميس ,22 كانون الأول / ديسمبر

عليك النظر إلى المستقبل البعيد واختيار الأنسب لتطلعاتك

GMT 04:00 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

مستقبل إردوغان

GMT 13:21 2021 الخميس ,22 إبريل / نيسان

عملاق صيني للطرق الوعرة سيظهر العام الجاري

GMT 11:08 2021 السبت ,05 حزيران / يونيو

شركة كيا تكشف عن النسخة الأحدث من طراز K5

GMT 12:43 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة شخص وإصابة 2 بتصادم 3 سيارات في دبي

GMT 06:02 2012 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق تعاون بين الأردن والكويت

GMT 12:58 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

آلات قطر الإعلامية والدينية.. والتحريض على مصر وجيشها

GMT 07:04 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

كثرة التنقل
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia