وضوح ما بعد الثورات

وضوح ما بعد الثورات

وضوح ما بعد الثورات

 تونس اليوم -

وضوح ما بعد الثورات

حازم صاغية

استدرجت الثورات العربية قدراً من الوضوح إلى حياتنا، فلم يعد الغامض والملتبس غامضاً وملتبساً. وبغض النظر عن المآلات التي قد تنتهي إليها الثورات، فإنها رسمت الخط بين من يرفضون الواقع القائم ومن يريدونه بحجج «ثورية». لكن ما هو أبعد وأهم أنها طعنت الأيديولوجيا الشعبية الجامعة التي أفردت، على مدى عقود، مكاناً لكل شيء وبجلت كل شيء.
فالجيش، قبل الثورات، هو جيشـ»نا» الموصوف بأنه مفدى وباسل، كائناً ما كان رصيده في القمع والهزائم. أما الـ»نا» فتعود إلينا جميعاً، حاكمين ومحكومين، سجانين ومسجونين...
وربما لأن «ثوراتنا» في الخمسينات والستينات كانت انقلابات عسكرية، تشربت الثوريةُ التي راجت محافظةً عميقة مفادها احترام الجيوش وتبني إيديولوجيتها التي تصورها صنواً للوطنية.
أمرٌ آخر كان يخص طريقة تقديمنا للدين. فهو، وفقاً لما اقتنعنا، أو لما تظاهرنا، ملازم لكل فعل ثوري إن لم يكن مرشداً له ومصدراً لإلهامه. وما دامت الثورة، كما قُدمت في الخمسينات والستينات تستهدف الغريب وتستمطر الذات الأصيلة، بات دينـ»نا» جزءاً من تلك الثورة، وتلك الثورة جزءاً من إملاءات دينـ»نا». وربما لأن الناصرية والبعث والثورتين الجزائرية والفلسطينية، كلاً منها بطريقته، زاوجت بين القومية والوطنية والدين، تعزز الموقع التسليمي للأخير في حياتنا.
هكذا بدا الجيش والدين مما لا يجوز عليه الانقسام، ومما لا يحض إلا على الوحدة والإجماع.
الآن، وبفضل ثورات «الربيع العربي» وتداعياتها المُرة، يبدو الأمر أوضح، ففي ثورة يناير المصرية اعتُبر أن الجيش إنما وقف مع الثورة ضد حسني مبارك. وكان لاعتبار كهذا أن ضاعف الاستعداد لحب الجيش ولاستبعاد صورته كأداة للقمع. بهذا انعقدت المصالحة مجدداً مع الإيديولوجيا الشعبية الجامعة، موفرةً لنا الكثير من الألفة مع أنفسنا كما نعهدها. وفعلاً أراحنا هذا وطمأننا إلى أننا لن نتغير كثيراً ولن نحيد عما رسمه السلف الصالح. ومجدداً علت الدعوات الوطنية البسيطة عن «جيشنا»، ثم جاء انتخاب «الإخواني» محمد مرسي رئيساً ليعزز الصورة المتوهمَة عن تعالي الجيش وعن كونه ملاكاً حارساً لنا جميعاً. هكذا استمرت الحال إلى أن أطيح مرسي ثم كانت رئاسة عبد الفتاح السيسي بنسبة تقارب الـ97 في المئة، وبين هذا الحدث وذاك استعيدت وجوه مباركية إلى الصدارة. ولما مزج السيسي عبد الناصر بالسادات، وأوقفهما عن يمينه ويساره، اندثر كل تعريف سياسي أو إيديولوجي له ولحركته فلم يتبق إلا التعريف العسكري البحت.
وهذا جميعاً لن يترك لأي ثورة مقبلة أن تكون حيادية حيال الجيش، كي لا نقول ودية، ناهيك عن أن الجيش، وقد استقرت السلطة بين يديه، سيجد نفسه حُكماً في موقع محدد يصعب إسباغ الحياد أو التعالي عليه.
ولئن بدا مفهوماً، في سورية، أن «تخرج الثورة من الجوامع»، لأن الأماكن الأخرى مسدودة كلها في وجه السوريين، لم يكن مفهوماً ولا مقبولاً أن ترتفع رايات «داعش» و «النصرة» و «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» وسواها باسم نصرة الجامع. هكذا، وفي مواجهة ارتكابات تلك التنظيمات، بات يستحيل الفصل بين مقاتلة النظام القمعي ومقاتلة التنظيمات الدينية، بل لم يعد ممكناً المضي في غض النظر باسم «وحدة» الشعب في مواجهة النظام. فوق هذا، أفضى الفرز في الواقع إلى ميل متعاظم للفرز في التاريخ والتراث الديني، ميلٍ يتجرأ على الخرافات الغيبية القاتلة ويرى فيها سنداً موضوعياً لنظام قاتل يسمي نفسه علمانياً.
وكانت مصر، مع رئاسة مرسي، قد أوضحت أن «الإسلام هو الحل»، ما لا يُغني عن التفكير في الإسلام كما لا يُغني عن التفكير في الحلول.
وحين نرفع عنا التمويه الذي تنشره الإيديولوجيات القومية والوطنية وإيديولوجيات الإجماع الشعبي على عمومها، نكون نضيف إلى الانقسام الوعي به. وهذه نقلة مهمة باتجاه الوضوح، علماً بأن اتضاح الأمور قد لا يجعلها بالضرورة أسهل.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وضوح ما بعد الثورات وضوح ما بعد الثورات



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia