لبنان الأرمنيّ، لبنان التركيّ

لبنان الأرمنيّ، لبنان التركيّ

لبنان الأرمنيّ، لبنان التركيّ

 تونس اليوم -

لبنان الأرمنيّ، لبنان التركيّ

حازم صاغية

ظهرت في لبنان أصوات تمثيليّة تحتجّ على تكريم الذكرى المئويّة لإبادة الأرمن، وعلى القرار الرسميّ بالتعطيل يوماً واحداً استذكاراً للمناسبة السوداء. ومن دون اكتراث بالمكوّن الأرمنيّ للشعب اللبنانيّ، ذُكرت مناسبات أخرى رأى المعترضون أنّها أشدّ استحقاقاً للتذكير بها وإحيائها، أو أقلّه مساوية في الاستحقاق، كـ «مذبحة دير ياسين ومجزرة البوسنة 1992 والإبادة في كوسوفا 1995، ومجزرة صبرا وشاتيلا 1982»، بل وصل التعداد إلى «ذكرى إبادة المسلمين والعرب في الأندلس (إسبانيا) 1492، وإبادة الشعب في بورما، والإبادة والمجازر المتكرّرة على مدى التاريخ بحقّ العرب والمسلمين». ولم يفت المعترضين التذكير بخلافات في وجهات النظر التاريخيّة حيال ما حصل للأرمن، والتسلّح بما يُفترض أنّه الموقف المعرفيّ الأكثر صواباً.

لكنْ كائنة ما كانت الحجج والتعليلات، يبقى الصوت الاعتراضيّ هذا صوت حرب أهليّة. فردود الفعل التي استثيرت، لا توصف إلاّ بالانغلاق والتشنّج في الهويّة، ما لا يجد استطالته الطبيعيّة إلاّ في وعي أصوليّ ضيّق بالاختلاف وبَرِم بالآخر المختلف.

وطبعاً، وعلى جاري التقليد النزاعيّ اللبنانيّ، يتّجه كلّ واحد من الأطراف إلى رفع ظلاماته عالياً، وإلى تظهير الظلامات التي يُنزلها به طرف لبنانيّ آخر، علماً بأنّ «الخطأ لا يصير حقّاً عندما يتضاعف»، وفق قول شهير للمهاتما غاندي.

واقع الأمر أنّ ما نعيشه راهناً من خلافات حول كلّ شيء، وآخرها الكارثة الأرمنيّة، يتّصل بلا معقوليّة السلام اللبنانيّ القائم اليوم. فهو، والحقّ يقال، أشبه بالمعجزات غير المفهومة، وإن كانت من صنف المعجزات المحمودة. فلمّا كان لبنانيّون كثر يلحّون في التساؤل: لماذا لا تقع الحرب عندنا في ظلّ تكارُهنا الشامل، كما بتأثير الحروب المتمدّدة في المنطقة، يزدهر الميل إلى اعتناق عنف اللغة بديلاً من لغة العنف، والقتال على مستوى الرمز نيابةً عن القتال على مستوى الواقع.

وطبعاً، وفي ظلّ الاستنفار المتمادي للهويّات الفرعيّة، يوفّر الاعتراض على الذكرى الأرمنيّة مناسبة نموذجيّة أخرى.

لكنّ الهويّات الهائجة إذ «تتسلّى» بعنف اللغة، على أمل (!) أن تسطع لغة العنف، فإنّها تحكم على نفسها أيضاً بالانحصار في خيار تاريخيّ شنيع. فإذا كان الانحياز إلى أرمن 1915 انحيازاً للضحايا، فضلاً عن إسهامه المبدئيّ في تمتين النسيج الوطنيّ المتداعي للبنانيّين، فإنّ الانحياز الى الارتكاب العثمانيّ انحياز الى نظرة إلى العالم يصعب على المنصف تبنّيها. ومن منظور كهذا، يغدو مرعباً حقّاً ذاك الإجماع التركيّ العريض على الإنكار، والذي لا يحيل الاقتداء به إلاّ إلى التماهي مع القتل والجريمة طريقاً إلى بناء الهويّات السياسيّة.

والواقع، أنّ الهويّة التركيّة الحديثة إنّما بنيت على هذه المركزيّة الإثنيّة التي أوقعت بالأرمن مليوناً ونصف المليون، لكنّها أيضاً قتلت عشرات آلاف العرب السريان، وأنزلت مذابح بالأكراد في جبل أرارات (1930) ومدينة درسيم (1938)، وهجّرت جماعيّاً يونانيّي السواحل التركيّة بعد الحرب التركيّة - اليونانيّة عام 1922، ما استمرّ حتّى 1964، حين أخليت مدينة اسطنبول من يونانيّيها. وتُعطف على هذا السجلّ، اضطهادات نزلت باليهود في مقاطعة تراقيا عام 1934، ثمّ بأقليّات اسطنبوليّة صيف 1955، وأعمال ترحيل إجباريّ أو طوعيّ للمسيحيّين العرب في جنوب الأناضول الشرقيّ. وقد كان بارزاً في هذه التجربة، أنّ القوميّة «العلمانيّة» هي التي أخذت على عاتقها تحويل تركيّا بلداً شبه صافٍ دينيّاً. وحتّى اليوم، لا يزال الأرمن خصوصاً، وسواهم من الأقليّات على وجه العموم، ينتظرون اعتراف مؤمني تركيّا و»علمانيّيها» على السواء بما حلّ بهم.

وهذا ليس نموذجاً قابلاً للدفاع عنه، ناهيك عن تقليده، في أيّ مكان من العالم، وخصوصاً في لبنان.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان الأرمنيّ، لبنان التركيّ لبنان الأرمنيّ، لبنان التركيّ



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia