طارق عزيز آخر العفالقة

طارق عزيز... آخر العفالقة

طارق عزيز... آخر العفالقة

 تونس اليوم -

طارق عزيز آخر العفالقة

حازم صاغية

بموت طارق عزيز، مات العفلقيّ الأخير الذي انتسب إلى حزب ساهٍ عن الواقع، ومن ثمّ ساهٍ عن نفسه، يعيش ويموت من دون أن يعرف سبباً لعيشه ولموته.

فعزيز راودته، حين انضمّ إلى حزب ميشيل عفلق، فكرة بسيطة ومزدوجة راودت كثيرين غيره:

من جهة، كيف نصير كلّنا عرباً، ليس للدين أو للأصل مكان في تعريفنا، بحيث لا يُفتضح أمرنا كأقلّيّات وهويّات صغرى. هكذا غيّر الكلدانيّ والمسيحيّ الكاثوليكيّ اسمه ميخائيل حنّا ليغدو طارق عزيز، متغنّياً بالأصالة العربيّة وتسامح الإسلام وقصائد امرئ القيس وكلّ ما يلزم لاكتساب هذه العروبة والضياع في بحر أكثريّة عازفة عن كلّ تعريف ما خلا عروبتها. وهذا إنّما كان تعبيراً عن وعي نهضويّ واستبداديّ في آن معاً: نهضويّته اتّصال بأجداد مُتخيَّلين، اندثرت عروبتهم الثقافيّة واللغويّة مع صعود العروبة السياسيّة والجماهيريّة لعبد الناصر والبعث، واستبداديّته كبتٌ للذات قابل في أيّة لحظة أن ينقلب كبتاً للآخر.

ومن جهة أخرى، كيف نغدو واحدين وأقوياء مثل الغرب، ولو دفعنا مقابل ذلك ضريبة العداء للغرب والتي يتمّ استيفاؤها لاحقاً، أي بعد أن نتقدّم. وهو مشروع ينطوي على لحظة تطهّريّة حيال الصليبيّين والاستعمار، كما يتوهّم المعرفة بالوحدة بوصفها نتاج الجهل بالأجزاء، ويرى قوّة الوحدة بوصفها نتاج الجمع بين أجزاء ضعيفة ومجهولة.

والأمر يتراوح بين الفضيحة والفظيعة حين يكون الواقع المسهوّ عنه، والذي لم يبشّر عفلق بغير تعميق السهو عنه، هو العراق، عراق مذبحة الأشوريّين، وفرهود اليهود، ونكبات الأكراد، ومنع ياسين الهاشمي المواكب الحسينيّة للشيعة، ومساجلة ساطع الحصري وفاضل الجمالي حول تعليم العراقيّين، وسحب جنسيّة الشاعر محمّد مهدي الجواهري بوصفه إيرانيّاً...

ولم يكن ابن تلّ كيف، التي كان مهاجروها إلى بغداد يتولّون من الأعمال اليدويّة ما يترفّع عنه المسلمون، ليجهل هذا. إلاّ أنّه آثر، مثله مثل آلاف البعثيّين، والشيوعيّين أيضاً، أن لا يرى أو يسمع. فالعراق، عنده، جزء من «أمّة العرب»، وكفى المؤمنين القتال، تماماً كما هو موعود، في نظر الشيوعيّين، بأن يغدو «وطناً حرّاً وشعباً سعيداً».

فلم يكن بلا دلالة إذاً أن يعيش طارق عزيز خارجيّاً: فقد ارتبط اسمه بالصحافة الحزبيّة، وبتعليم اللغة الإنكليزيّة، قبل أن يوصف، كوزير خارجيّة، بأنّه الوجه الديبلوماسيّ لصدّام. أمّا الصحافة الحزبيّة ومساجلاتها فأتفه من أن تشغل ضبّاطاً بعثيّين من تكريت أو «المثلّث السنّيّ» مهتمّين بإعداد انقلاب أو بإدارة زنزانة تعذيب. وأمّا الإنكليزيّة، فكانت آلاف مؤلّفة من العراقيّين تجيدها قبل البعث وتعريبه. وأمّا الديبلوماسيّة، فيما صدّام كالفيل في دكّان خزف، فلزوم ما لا يلزم. وفي آخر المطاف، فالصحافة والإنكليزيّة والديبلوماسيّة لا أكثر من زوائد، بها وبدونها يمضي في سبيله نظام أمنيّ خالص.

لقد ظلّ طارق عزيز، في ظلّ البعث «العلمانيّ»، أقرب إلى المصريّ كمال رمزي ستينو أو السوريّ جورج صدّقني، منه إلى رفاق له كعزت الدوري أو كالضبّاط الذين آلت بهم المسيرة إلى «داعش». وفي هذه الغضون عاش الرجل مظلوماً وظالماً معاً، مضطرّاً بسبب مظلوميّته، التي لا تملك لغة لها، أن يتواطأ مع الظالم وأن يساهم، ما وسعه ذلك، في تبرير ظلمه.

ومثلما عاش طارق عزيز عيشاً خارجيّاً، مات موتاً خارجيّاً، ما بين سجن أقرب إلى الجحيم ومستشفى أقرب إلى السجن. لقد سلّم نفسه إلى الأميركيّين لظنّه أنّه بريء، إذ هو مقصيّ عن القرار الفعليّ. وربّما راودته، فيما هو يغادر هذه الدنيا، فكرة عفلقيّة أصليّة مفادها أنّ المتسبّبين بموته الأشبه بالقتل لا يمكن أن يكونوا عرباً أطهاراً، إذ «الشعوبيّون» وحدهم، وقد شوّهوا أصالة العرب وفطرتهم، هم من يفعل أفعالاً كتلك. وبالتأكيد ففكرة «الأستاذ» هذه ما كانت لتبعث في صدّام أو حافظ وسائر «الأنبياء الصغار» سوى القهقهة المطنطنة على رفيق راحل مسكين سوف تُدفن جثّته في الأردنّ، جرياً على ما انتهت إليه جثث بعثيّة كثيرة.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طارق عزيز آخر العفالقة طارق عزيز آخر العفالقة



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia