الكنز تصل قيمته إلى عشرين مليار دولار. بالإضافة إلى قطع ذهبية بقيمة مائتي مليون دولار. هذا الكنز مفروض أن يكون مدفونا في مكان ما بأراضي «حزب الله» في لبنان، اللهم إلا إذا تصرف الحزب وإيران به كليا أو جزئيا، لتختفي آثاره.
تبدأ حكاية الكنز في عام 2004. فقد شعرت إدارة الرئيس جورج بوش آنذاك أن النظام الشيعي القريب من إيران الذي أقامته في العراق، بعد إسقاط صدام حسين في العام السابق، بحاجة ماسة وفورية إلى ضخ المال في عروقه.
كان هناك أمام مجلس الكونغرس مشروع بتقديم مساعدة أميركية ضخمة إلى النظام العراقي الجديد. صحيفة «نيويورك تايمز» التي نشرت حكاية الكنز في 13 الجاري، لم تقل من هو الذي دلّ إدارة بوش على وجود مليارات من الدولارات، مجمدة في المصارف الأميركية، لحساب العراق من أموال برنامج «النفط مقابل الغذاء».
أود أن أشير هنا إلى أن كوفي أنان الذي كان آنذاك أمينا عاما للأمم المتحدة، طلب من مجلس الأمن فتح تحقيق في فضيحة اختلاسات ضخمة تورط فيها موظفو البرنامج من دول كبرى، كروسيا...
الطريف أن الغرض من إنشاء البرنامج، كان الحد من تبذير نظام صدام أموال العراق على قصوره ومنتجعاته، وعلى شراء ذمم الأحزاب الفاشية الأوروبية، وأعوانه، ومرتزقته من ساسة وصحافيين عرب وأجانب، للدفاع عنه، منذ فرض العقوبات الدولية عليه، بعد طرد قواته من الكويت في عام 1991.
وأضيف فأقول إن التقديرات الأميركية لقيمة رشى صدام بلغت 10.1 مليار دولار، تلك التي تمكن من «نشلها» فقط من أصل 67 مليار دولار أنفقها البرنامج منذ إنشائه في عام 1996 / 1997، إلى توقفه مع نشوب الحرب (2003).
أعود إلى حكاية «نيويورك تايمز» التي تقول إن الرئيس بوش بدأ فور علمه، بوجود أموال العراق المجمدة، بشحن مبالغ منها تتراوح نقدا بين 12 و14 مليار دولار، إلى الحكومة العراقية التي كان يشرف عليها منسق الاحتلال الأميركي بول بريمر. ثم حوَّل أيضا خمسة مليارات دولار، كأموال إلكترونية سائلة، ليصل المبلغ المعلن فقط، إلى 19 مليار دولار.
المثل الشعبي يقول: «المال الداشر (السائب) يعلم الناس السرقة». فقد كانت المفاجأة الكبرى لإدارة بوش، اكتشافها أن الأموال المحوَّلة لم تنفق على الإدارة العراقية، ولا على إعاشة ملايين العراقيين. ولا لتسديد الرواتب المتأخرة. بل تواصل فقدان المال المحوَّل، بعد تشكيل الحكومة العراقية الثانية (برئاسة إبراهيم الجعفري وزير الخارجية الحالي). ثم الثالثة (حكومة نوري المالكي)!
بدلا من تكليف المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) أو مكتب التحقيقات الفيدرالي (المباحث الجنائية إف بي آي)، عمد بوش إلى تكليف صديق شخصي له، من رجال الأعمال في تكساس (ستيوارت باون) للتحقيق لمعرفة أين اختفت الأموال العراقية، بعد وصولها إلى بغداد.
أبقى باون تحقيق لجنته سريا طيلة عشر سنوات تقريبا! لم يتكلم قط، إلا في الأسابيع القليلة الماضية، ليعلن أنه أصيب بالذهول عندما اكتشف أن مليارات من الدولارات جرى تحويلها، بمعرفة الحكومات العراقية المتعاقبة في السنوات العشر الأخيرة، إلى لبنان. وبدلا من إيداعها في المصارف رسميا. فقد أودعت في مستودع محصن وضخم، تحت الأرض في الريف اللبناني!
باون يملك الآن مستمسكات ووثائق حصل عليها في التحقيق، لنقل 1.2 إلى 1.6 مليار دولار فقط إلى لبنان. لكنه لا يملك إثباتات عن المليارات الأخرى التي تم نقلها، وذلك «لأسباب خارجة عن إرادتنا»!
أبلغ باون المخابرات الأميركية الداخلية والخارجية نتائج تحقيقاته، طالبا منها مواصلة التحقيق. ويقول إن هذه الأجهزة المخيفة لم تحرك ساكنا. وتذرعت بأن «المال عراقي». وأضيف من عندي أن المخابرات الأميركية تعرف أن نهب النظام الشيعي العراقي لموارد العراق النفطية يفوق بكثير سقف النهب المروع في عهد صدام حسين.
ينوه باون أيضا بأنه تحدث إلى المالكي بخصوص «الكنز» الذي نقل إلى لبنان. فلم يقم بأي تدبير لاستعادته. بل أبدى، في صدِّه وجفائه، استياءه من الطريقة العلنية التي نقلت بها أميركا المال إلى العراق! أكثر من ذلك، فقد رفضت السفارة الأميركية في بيروت التعاون مع محققي باون، لمعرفة مكان المستودع! وحذرتهم من البحث عنه. ربما لأنها تعرف من دون أن تقول هي وباون - إنه موجود في أرض يسيطر عليها «حزب الله» ورجال إيران في لبنان.
وفي ظني، أن الرفض الأميركي الرسمي للتعاون مع باون في عهدي بوش وأوباما، راجع إلى الأدب الأميركي في عدم إحراج النظام الإيراني، سواء أمام إسرائيل بخصوص الملف النووي، أو أمام النظام العراقي الذي أطلق حرية الميليشيات الشيعية العراقية الثلاث التي تديرها إيران، في العودة مع فلول الجيش العراقي، إلى غزو مناطق السنة، وارتكاب أعمال منافية لحقوق الإنسان فيها، بحجة مكافحة «داعش». كالنهب. والترويع. والاعتداءات الجنسية. وتهجير السكان بالقوة.
الأطرف، بعد كل هذه العراقيل، أن باون نقل معلوماته إلى سعيد ميرزا النائب العام اللبناني (سابقا) فتظاهر باستعداده للتعاون. ثم ما لبث أن اعتذر! ربما بعد الاتصال مع السلطات التنفيذية والسياسية اللبنانية. وبالطبع، فسياسة النأي التي «روّجها» نبيه بري، رئيس المجلس النيابي ومن أنصار نظام بشار في لبنان، لا تجيز للبنان الغارق بألف مشكلة ومشكلة، الوقوع في مشكلة أخرى، تزعج وتحرج النظام الحاكم في العراق، والمتعاون بشكل وثيق سرا وعلنا، مع إيران و«حزب الله».
إلى هنا انتهى كلام «نيويورك تايمز» وستيوارت باون. لكني أشعر أن مهمتي المتواضعة، كصحافي وكاتب عربي لم تنته. لذلك أتوجه إلى تمام سلام رئيس الحكومة اللبنانية، لأسأله: هل تم ويتم تمويل بشار الأسد بالمال العراقي عبر لبنان، لمواصلة أبشع عملية قتل في تاريخ العرب والمسلمين؟! أعرف أن تمام سلام يملك جرأة ومصداقية أبيه الراحل الكبير صائب سلام. قد تكون القضية أكبر من طاقته وطاقة حكومته. لكني أعرف أن تمام كرئيس حكومة، لا يقبل أن يكون لبنان مقرا أو ممرا، لمال عربي، ربما استخدم ويستخدم ضد لبنان وأمته العربية.
ثم أتوجه بالسؤال مباشرة إلى حيدر عبادي رئيس رابع حكومة عراقية، تعرف كلها ملابسات قضية الكنز: هل سألت، يا سيدي، المرجع الشيعي الأكبر علي السيستاني الذي قابلته قبل سفرك إلى طهران، أن يمنحك دعمه و«بركته»، إذا ما قررت حقا مباشرة التحقيق؟ ثم هل سألت في طهران «الثنائي المرح» خامنئي / روحاني، عما إذا كانت إيران وحزبها اللبناني تصرَّفا بالمال العراقي، لخدمة غرضها المدني والعسكري في لبنان وسوريا؟
مر تحقيق «نيويورك تايمز» عن المال العراقي السائب، فاقدا معظم عناصره الإخبارية الواجب توفرها، في حرفة أكبر صحيفة سياسية رصينة في العالم الغربي. وعلى حد علمي، لم يهز الخبر ضمير نوري المالكي الذي رقي إلى رتبة نائب رئيس الجمهورية، ليتكلم. فهو الأعلم. وكان الصامت الأكبر أيضا الإعلام العربي، بما فيه صحف عراقية. ولبنانية تطبل. وتزمر لإيران ولحزبها العتيد المقاتل في سوريا.