منذ بدأ «الربيع العربي» و منطقة الشرق الأوسط تنام على مفاجأة جديدة (إذا نامت) وتستيقظ على أخرى. وكلها مفاجآت سلبية حتى الآن. ويبدو أن الوضع سيطول قبل أن تستقر الهيكلية الجديدة لدول الشرق الأوسط، على شكل ولايات، كما في السابق، حسبما يرى قائد عسكري بريطاني متقاعد متابع عن كثب تطورات المنطقة «التي عشتها وأحببتها».
قبل أن يبدأ في شرح الهيكلية التي، حسب تحليلاته، ستحل بمنطقنا، تطرق إلى علاقة الدول الكبرى مع الشرق الأوسط. برأيه الولايات المتحدة ستبتعد شيئًا فشيئًا حتى العزلة الكاملة عن الشرق الأوسط. ستقوم بذلك تدريجيًا. هي وضعت خطة لخفض ميزانية قواتها في المنطقة إلى ما يقرب من 60 مليار دولار. لن تعتمد على النفط. لديها التزام تجاه بعض الدول الحليفة، لكن كما رأينا، فإن أميركا مستعدة أن تتحول، وقد رأينا ذلك في سياسة أوباما وميله إلى إيران.
يرى محدثي أنه إذا عاد الجمهوريون فإن التحول سيتباطأ، لكن الأساس في المسألة أن العلاقات الأميركية مع دول الشرق الأوسط ستكون في الحد الأدنى، باستثناء إسرائيل!
لماذا؟ لأن إسرائيل تبقى عاملًا أميركيًا داخليًا. يتحدث العرب عن اللوبي اليهودي في أميركا، ولعدة عقود لم يستطيعوا إقامة «لوبي» لأنفسهم. هذا العجز يعكس انقساماتهم، فهم لا يتحدثون بصوت واحد. إذن، يستطرد، إسرائيل عنصر داخلي أميركي، وبالتالي فإن الالتزام بها سيبقى. سنرى «شرق أوسط» من المنظار الأميركي، مع التزام واحد ينمو وهو تجاه إسرائيل، والتزامات أخرى تتلاشى أكثر فأكثر.
يعطي مثلًا «صغيرًا» تشاك هيغل، وزير الدفاع الأميركي الحالي، عندما سما للمنصب اتهمته بعض المنظمات اليهودية بأنه ضد السامية. لننظر إلى ما حدث عندما دخل وزارة الدفاع، أصبح أفضل صديق لموشيه يعالون، وزير الدفاع الإسرائيلي. هل سمعه أحد ينتقد إسرائيل؟ عندما زار مركز «ياد فاشيم» (نصب ذكرى ضحايا الهولوكوست) ألقى كلمة، قلة ألقوا كلمات شبيهة بها «كأنه نقلها حرفيًا عن أحد القادة الصهاينة»!
ما الذي دفعه إلى التغيير؟ الحاجة إلى إسرائيل قوية. السبب: إذا حدث شيء قرب حدود إسرائيل، من سيحارب هناك؟ أميركا لا تريد إرسال قوات أميركية إلى المنطقة. هي تدعم إسرائيل لإسرائيل ولنفسها. إذا حدث شيء في سوريا «يستدعي» تدخلًا فعليًا، من سيقاتل؟ بالطبع ليس الأميركيون، لا يريدون التورط بأي شيء في الشرق الأوسط، وقد أدرك هيغل الأمر، ولهذا السبب تنمو العلاقة باطراد، إنها الآن الأفضل في تاريخ العلاقات الإسرائيلية – الأميركية.
أسأل: لكن جون كيري، وزير الخارجية، ينتقد السياسة الإسرائيلية!
يجيب: هو ينتقد والرئيس باراك أوباما ينتقد أيضًا، لكن هل تعتقدين أن هيغل يمكنه أن يتخذ هذه المواقف من دون موافقة الرئيس؟ هم يريدون إهانة بنيامين نتنياهو، وهذا أمر مقبول حتى إسرائيليًا، لكنهم مستمرون في دعم إسرائيل لأنها قضية أميركية داخلية. هذه هي أميركا في المستقبل القريب. التزام أكبر بإسرائيل، اعتماد أقل على العالم العربي، أكثر استقلالية في النفط، وبشكل عام: عزلة إن صحت التسمية.
أما روسيا، فيرى الضابط البريطاني المتقاعد الذي تحول إلى مؤرخ: أميركا لا تريد أن تتعامل مع روسيا. قال مرة أوباما – وكان على حق – وكان الكثيرون غاضبين من توجهات فلاديمير بوتين الرئيس الروسي: إن روسيا قوة إقليمية، وليست قوة عالمية، وهذا في رأيي حقيقي.
أسأل: ماذا يعني بإقليمية وأين؟ يجيب: روسيا واحدة من الدول المصدرة للنفط. صناعيًا لم تعد شيئًا: هل سمعت بعد طائرة «ميغ - 29» أو «أنطونوف - 16» أو «سوخوي 34» عن تصنيع روسيا لطائرة أخرى حديثة وكبيرة؟ كانت الصناعات العسكرية تقود الاتحاد السوفياتي، وتقود الاقتصاد الروسي. الآن صار الاقتصاد الروسي شبيهًا باقتصاد إيران أو اقتصاد دول الخليج يعتمد على تصدير النفط. كل عائداتها المالية من النفط.
يقول: هذا الفرق بينها وبين أميركا. لدى أميركا عدة آلاف من الصواريخ الباليستية بحيث تستطيع أن تطلق الآلاف منها على ثلاث أو أربع دفعات، أما روسيا فإنها تستطيع أن تطلق المئات فقط، وهذا فارق كبير.
إذن، ماذا تستطيع روسيا أن تقدم للعالم العربي؟ يقول: أسلحة قديمة. يمكن لروسيا أن تزودها ببعض المعدات الأمنية، وتستطيع أن تقدم بعض المال. وعندما يقال إن هبوط سعر النفط ضرب إيران وروسيا، تجدر الملاحظة إلى أن هناك فرقًا في التأثير؛ إذ ليس في إيران من احتياطي مالي، في حين أن روسيا لديها ما يزيد على 450 مليار دولار، من هنا القول إنها قد تدعم بالمال، لكن هذا يعتمد على تصدير النفط، وهذا يعني بالتالي أنها قوة إقليمية.
يمكن لروسيا أن تدعم بعض الحلفاء العرب، لديها طموحات، لكنها لا تملك القدرة. هي نفسها تحتاج لاحتياطيها، فالوضع الاقتصادي في روسيا اليوم سيئ جدًا. يمكنها المحافظة ولفترة، على شخص مثل الرئيس السوري بشار الأسد.
وإيران؟ يقول: كلا. إيران تستطيع الوقوف على رجليها من دون الدعم الروسي. العلاقات الإيرانية – الروسية معقدة، والكثيرون في إيران حتى اليوم يتساءلون مشككين بالدور الروسي. لا يثقون بروسيا. أيضًا، لا أحد في العالم العربي يثق بروسيا التي لم تعد لاعبًا كبيرًا، بل صارت صغيرة مقارنة بما كانت عليه. يقول محدثي: العلاقة الروسية مع إيران هي لمواجهة التطرف السنّي، روسيا تتعرض لهذا الخطر من الشيشان وداغستان، وبالتالي فإن إيران هي الحليف الطبيعي في هذه الحالة.
لروسيا عالم آخر تلعب فيه، ليس بالتأكيد العالم العربي. نظرها على أوروبا، على الجمهوريات السوفياتية السابقة على: أوكرانيا، روسيا البيضاء، جمهوريات البلطيق. هذه هي ساحاتها المستعدة أن تنفق عليها الجهد والأموال وحتى تقاتل من أجلها. الدول العربية لا تهم روسيا. تهمها في إطار عقد صفقات عسكرية.
مالت روسيا إلى سوريا لرغبتها في مرفأ على المياه الدافئة (البحر الأبيض المتوسط). المنفذ الروسي إلى المياه الدافئة متجذر في العقل الروسي ويعود تاريخه إلى زمن الإمبراطورة كاترين الثانية. قياصرة وشيوعيون أرادوا الوصول إلى المتوسط، إنما في مرحلة ما سيكتشفون أنهم لا يحصلون، كفائدة على شيء، لهذا استرجعت روسيا جزيرة القرم، حيث تعيد بناء مرفأ هناك.
لنصل إلى الصين؟ الصين تتطلع إلى مصالحها، تذهب إلى أفريقيا، وإلى كل مكان في الشرق الأوسط أو أبعد، كل ما تريده هو النفط، لا يهمها ما يجري سياسيًا أو عسكريًا. ترحب بمن يبيعها النفط، وهي مستعدة لشرائه حتى لو كان البائع أميركا!
الصين لا تتطلع إلى تأثيرها السياسي في الشرق الأوسط، في هذا الأمر تتطلع إلى محيطها: الكوريتان، واليابان، وكمبوديا، ولاوس، وفيتنام. هذا هو محيطها وليس الشرق الأوسط.
إذا نظرنا إلى العالم العربي ماذا نرى وكيف سيكون؟ يقول: إن المواجهة القائمة الآن بين السنّة والشيعة ستستمر حتى تشتعل في إحدى المراحل؛ لأن القيادة الإيرانية ترفض الاعتراف بضعفها، ومصرة على الهجوم على كل الأطراف. في النهاية ستكون الأمور واضحة لأن العالم السنّي لن يتقبل هذا، وسيحارب بكل الطرق «ولا أستبعد حربًا عسكرية».
وهذا سيقودنا في الموضوع التالي إلى نوعية وأشكال الدول التي ستبرز، إذ لا بد للعالم العربي والإسلامي أن يمر بما مرت به أوروبا في القرن السابع عشر من حروب بين الكاثوليك والبروتستانت أنهتها «معاهدة وستفاليا»!