هدى الحسيني
الصراع الدائر بين موسكو وواشنطن يزداد ضراوة واتساعًا. روسيا تلاقي الصين في امتداداتها، والولايات المتحدة تريد تحجيم تلك الامتدادات. بعد شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، وسوريا، تتجه روسيا إلى باكستان، وأميركا أيضًا عادت إلى مغازلة باكستان، فيما الهند تراقب الطرفين.
في أوائل شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلن سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن المحادثات جارية بين موسكو وإسلام آباد لتسليم باكستان هليكوبترات هجومية من طراز «MI-35M» وأحدث مقاتلات من طراز «SU-35» (استخدمت لأول مرة في سوريا). وأضاف ريابكوف أن باكستان هي «الشريك الأقرب» لروسيا، وأن العلاقات بين الدولتين تشمل قطاعات أبعد من المجال العسكري لتصل إلى مجالات الطاقة. ورأى أنه لن يكون لهذه العلاقات أثر سلبي على العلاقات بين موسكو ونيودلهي.
بنظر روسيا أن باكستان هي «السحّاب»، بمعنى أن هذا «السحّاب» يمكنه أن يجمع أربعة كيانات اقتصادية كبرى، وأنه من الضرورات الأساسية لروسيا أن تبني شراكة استراتيجية مع باكستان من دون أن تتجاهل احتمال عرقلة الولايات المتحدة في المستقبل لانضمام باكستان الكامل إلى «أوراسيا».
تحاول روسيا إقناع نفسها وإقناع باكستان بأن الغرب يتجاهل عن قصد أهمية باكستان الجغرافية في دول «أوراسيا»، وقدرتها على ربط الاقتصادات الضخمة للاتحاد الأوراسي الذي يضم الصين وإيران، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي المؤلفة من بنغلاديش، وبوتان، والهند، والمالديف، ونيبال، وباكستان، وسريلانكا، والهادفة إلى إنشاء منطقة اقتصادية متكاملة لعموم الأوراسيا.
وتقول روسيا إنها تعترف بالإمكانات الجيوسياسية الرئيسية لباكستان، وإن غايتها الأساسية توفير توازن غير استفزازي لتعزيز موقع باكستان السياسي ومساعدتها على الاندماج السلمي ضمن الإطار الأوراسي المتعدد الأقطاب الذي تشيده الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين.
وتتطلع روسيا إلى بناء ممر تجاري في باكستان في ظل الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (CPEC)، وترى في ذلك عاملاً مساعدًا لربط الكتل الاقتصادية الأربع معًا، وهذا يعني ربط الاتحاد الاقتصادي الأوروبي - الآسيوي بقيادة روسيا (EEU) مع دول رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، فتلتقي هذه الكتل عند تقاطع شينجيانغ - باكستان.
وحسب المفهوم الروسي فإن الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان لن يكون فقط محورًا جيوسياسيًا للصين، إنما سيكون محورًا اقتصاديًا موحدًا، ويجعل للصين منفذًا سهلاً على حقول النفط في الشرق الأوسط، مما يجعله السبيل الوحيد أمام الصين لقمع أي زعزعة لاستقرارها مدبرة من الخارج كالتي وجدت نفسها تعاني منها في شينجيانغ أخيرًا.
لذلك تعطي روسيا أهمية كبرى لمشروع أنبوب النفط الممتد عبر إيران - باكستان - الصين، كجزء من إنجاح الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني. نجاح هذا المشروع يكمن في أن تصبح شينجيانغ مركزًا تجاريًا يربط الصين، والاتحاد الأوراسي، ودول رابطة جنوب آسيا، وإيران، بحيث تصبح للمنطقة أهمية جغرافية واقتصادية تجعلها فائقة الاستراتيجية.
لكن في المقابل، هناك الهند ومطالبتها بالجزء الباكستاني من كشمير. وتعتقد موسكو أنه إذا استخدمت الشركات الهندية هذا الطريق، فإن الجاذبية الاقتصادية ستتغلب على كل مقاومة.
الحسابات الروسية قائمة على أساس أنه في حال توترت الأوضاع بين الصين والهند، فإن موسكو قادرة على لعب دور الوسيط، وإذا توترت الأوضاع بين الهند وباكستان فإن واشنطن لن تبقى مكتوفة الأيدي، لهذا فإن الخطوة الروسية المقبلة ستكون مساعدة باكستان بالخبرة التقنية على بناء جزء من خط أنابيب الغاز بين إيران وباكستان والصين في المستقبل القريب.
من ناحيتها فإن باكستان سعيدة بهذا الاهتمام، وتفكر في إبرام اتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوراسي، وهي أرسلت الفرقة العسكرية الوطنية الباكستانية للمشاركة في مهرجان موسكو الدولي للموسيقى.
الخطة الروسية قد تتلقى ضربة كبرى إذا ما تعرض الاستقرار الباكستاني للخطر، أو إذا ما رفضت الهند المشاركة، وأيضًا إذا ما تدخلت أميركا وضغطت فخسرت روسيا شريكها الاستراتيجي الحقيقي الهند، خصوصًا أن باكستان لن تعتبر علاقتها مع روسيا كعلاقتها مع الصين. ولا تستبعد روسيا أن تفصل أميركا بينها وبين الهند بسبب باكستان، كما فعلت بينها وبين الاتحاد الأوروبي بسبب أوكرانيا.
في الأسبوع الأول من هذا الشهر تحركت واشنطن وبدأت تفكر في التوصل إلى اتفاق نووي مع باكستان كالذي توصلت إليه مع الهند. وهذا تأكيد آخر على بروز الوضع الجيوسياسي في العلاقات الدولية.
لقد تعرضت العلاقات الأميركية - الباكستانية للكثير من موجات الصعود والهبوط. فحرب فيتنام دفعت بهنري كيسنجر وريتشارد نيكسون إلى الاعتراف بأهمية باكستان كمفتاح للصين في الالتفاف على السوفيات. بعد ذلك بعقد، ساعدت باكستان أميركا على استنزاف السوفيات في أفغانستان، أيضًا بعد عقد آخر من الزمن فإن المساعدة الباكستانية التي أنتجت «القاعدة» و«طالبان» كلفت أميركا 31 مليار دولار بين عامي 2002 و2015 كمساعدات اقتصادية وعسكرية لباكستان من أجل إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة» و«طالبان».
الآن التحالف بين الصين وباكستان والدور الروسي حركا أميركا. أصرت باكستان على اتفاقية نووية. اتفاق نووي مع باكستان تبرره أميركا بأنها تحافظ دائمًا على علاقات جيدة ومتوازنة مع الهند وباكستان.
بدورها، تمسكت روسيا بخريطة، كما تقول، وضعها في البنتاغون الكولونيل رالف بيترز «حدود الدم: كيف يمكن أن يكون شرق أوسط أفضل؟»، وبدت فيها «بلوشستان الحرة» وقد اقتطعت أراضيها من إيران وباكستان. وقد سمح هذا لموسكو بالإشارة إلى احتمال تدخل أميركي في خلق عدم استقرار من شأنه زعزعة مرفأ «غوادار» المركز الرئيسي لـ«الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني»، ويفرض وضعًا جيوسياسيًا جديدًا باقتطاع أراض من مقاطعة سيستان - بلوشستان الإيرانية.
بعد التهديد بالانفصال البلوشي، تسلط روسيا الضوء على «التطرف الإسلامي المتشدد» في المناطق القبلية الباكستانية كعامل زعزعة خطير للاستقرار في باكستان، كما تلفت إلى صعود نجم «داعش» في ثلاث مقاطعات أفغانية: فرح (غرب) وهيلمان (جنوب) ونانغارهار (شرق). وتبالغ في الترهيب بأن «داعش» قد يستعمل إقليم «نانغارهار» كنقطة انطلاق للدفع أكثر في العمق الباكستاني، ويلغي «خط دوراند». ولا تنسى موسكو في شرحها لأخطار «داعش» الإشارة إلى احتمال انضمام مقاتلي «طالبان» إلى «داعش»، مما قد يؤدي إلى ولادة «خلافة مصغرة» بين نانغارهار وأجزاء من المناطق القبلية في باكستان.
تريد روسيا كسب باكستان بأي وسيلة. تعرض عليها من جهة برامج لاقتصاد مزدهر، يقابلها أن «داعش» يتجه شمالاً، ويقترب من طاجيكستان، وهناك انشق العقيد غول مراد حليموف قائد القوات الداخلية الخاصة، وانضم إلى «داعش»، مما يكسبه معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن، ويسهل على مقاتليه التسلل لضم مجندين.
الاتصالات الروسية - الباكستانية «تخيف» باكستان بسيناريوهات أميركية أخرى، منها على سبيل المثال أن أميركا قد تعرقل مستقبل باكستان الجيواقتصادي، عن طريق تركيب «ثورة ملونة» ضد رئيس الوزراء نواز شريف، بشعارات مكافحة الفساد. أو شبيهة بتلك التي حدثت في جورجيا، أو بالتي وقعت في ساحة «ميدان» في كييف، وأدت إلى استعادة روسيا شبه جزيرة القرم، وإلى تحريك شرق أوكرانيا. وقد تنطلق أصوات باكستانية تطالب بتغيير النظام، عندها سنرى باكستان تسير على طريق سوريا.
الهند تراقب. تدرك أن موسكو تسوق لتحالفها مع الصين ولتشكيل محور «يتحدى» الولايات المتحدة. لكن لوصول أميركا إلى الصين كان لا بد من باكستان. العلاقة مع الصين الآن تحولت إلى منافسة اقتصادية ومالية وحتى عسكرية. يقول سياسي هندي: «لقد تذوق الأميركيون خيانة الباكستانيين، والصين وروسيا ستتذوقان آجلا أم عاجلا طعم تلك الخيانة». لكن هذا التقارب الروسي - الصيني - الباكستاني - الإيراني، من يدري، فقد يؤدي إلى قيام دولة بلوشستان.
إن الشرق الأوسط الكبير لن يكون هادئًا أبدًا! راقبوا بلوشستان.