هدى الحسيني
المفاوضون في فيينا واجهوا عدة مرات الأسبوع الفائت عقبات اللحظة الأخيرة، أبرزها سرعة رفع العقوبات، ونطاق تفتيش المنشآت النووية الإيرانية. إنما لا بد من القول إنه منذ بدء المفاوضات بين إيران والغرب، كان الموقف الإيراني المتصلب أكثر مهارة في مناوراته من «التنازلات» التي قدمتها الولايات المتحدة. أما الدول الأوروبية فإنها عين على المفاوضات وتريد الإسراع بها لأن العين الأخرى على عقود نفطية وتجارية وعسكرية تلوح بها إيران غير الخامنئية، ما بعد الصفقة. ومع عودة محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني إلى طهران مساء الأحد لمزيد من الاستشارات، نشرت صحيفة «هامشهري» الإيرانية يوم الاثنين الماضي أن الرئيس الأميركي باراك أوباما وجه رسالة سرية أخرى إلى «السلطات الإيرانية» وأن ناقل الرسالة قد يكون حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الذي زار طهران ليوم واحد في 17 يونيو (حزيران).
إذا كانت هذه الرواية صحيحة، فإن الرسالة تأتي بعد تصريح جون كيري وزير الخارجية الأميركي في 15 يونيو بأن بلاده تدرك الأبعاد العسكرية لبرنامج إيران النووي: «نعرف ما فعلوه، ليس لدينا أدنى شك، نعرف كل شيء عن أنشطتهم العسكرية»، وكان الرئيس أوباما لمح في تصريح له عقب إعلان لوزان في 2 أبريل (نيسان) إلى أن برنامج إيران النووي يتضمن أبعادا عسكرية عندما قال: «سيتم تناول جهود إيران الماضية لتسليح برنامجها النووي». هذا يعني أولاً معرفة واشنطن منذ انكبابها على المفاوضات مع إيران عدم وجود فتوى من خامنئي المرشد الأعلى تحرّم الأسلحة النووية. لكن ما أضافه كيري في تصريحه مثير للاستغراب، بأن الولايات المتحدة غير مهتمة بالتركيز على ماضي المنشآت العسكرية الإيرانية: «ما يهمنا هو التقدم إلى الأمام وبأن هذه الأنشطة توقفت (...) هذا واحد من المتطلبات التي لا بد من تحقيقها كي يكون الاتفاق شرعيًا، وبالتالي لتخفيف العقوبات».
في هذا التصريح تبدو واشنطن وكأنها تتنازل عن مطلبها المتعلق بالأنشطة ذات البعد العسكري المحتمل، وكان هذا المطلب يفرض على إيران تقديم تفسيرات للوكالة الدولية للطاقة الذرية حول شكوك سابقة، ويشكل بالتالي سابقة لإيران بأن تمتنع عن الرد على أي من الشبهات التي قد تثار في المستقبل.
مصادر غربية مطلعة، تتخوف من احتمال أن تتراجع الولايات المتحدة في المستقبل في أمرين. إذ وفقًا لتقارير غير مؤكدة حتى الآن فإنه بدلاً من التفتيش «في أي وقت وأي مكان»، سوف يتم تشكيل لجنة تضم ممثلين لجميع الدول المشاركة في المفاوضات بما في ذلك إيران، وهذه تقرر تحديد المنشأة للتفتيش هذا إذا استطاع الأعضاء التوصل إلى توافق بشأن الآراء. وتقول المصادر، إنه بهذه الطريقة سيتم تجريد الوكالة الدولية من كل سلطة مستقلة.
أما الوصول إلى المنشآت العسكرية، (الكل في إيران يرفض بدءًا من المرشد الأعلى، مرورًا بالحرس الثوري والمجلس وأيضا الفريق المفاوض)، فلن يكون شرطًا مسبقًا للتوصل إلى اتفاق، بل سيتم تأجيله إلى ما بعد التوقيع.
حسب مصادر أميركية، فإن الولايات المتحدة ترى في اتفاق نووي شامل فرصة لفتح صفحة جديدة مع إيران، وحتى فرض نفوذ أميركي وغربي عليها، بحيث تتحول من دولة معادية إلى دولة صديقة تتشارك مصالحها مع الغرب.
الملاحظ أنه منذ تسلمت إدارة الرئيس أوباما زمام المفاوضات، وصار وزراء خارجية الدول الغربية الأخرى يحضرون في الأيام الأخيرة لكل جولة مفاوضات، حوّل الإعلام الأميركي إيران من دولة مشتبه بها وعرضة للعقاب، إلى شريك على قدم المساواة في المفاوضات والتي لمطالبها الوضع نفسه التي لمطالب الدول الأخرى، ووصل الحد بروبن رايت أن كتبت في 26 يونيو الماضي مقالاً في «النيويوركر» تحت عنوان «الحرب التي تطارد المفاوضين الإيرانيين»، وصمت بالعار إدارة الرئيس رونالد ريغان لأنها ساعدت العراق في حربه ضد إيران في الثمانينات. كل هذه «الجهود الأميركية» تهدف إلى تحويل إيران بحكم الأمر الواقع إلى دولة صديقة للغرب، وتحت التأثير الغربي، والمثل الذي تحتذيه الإدارة هو الدور الذي قام به وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر بجلب مصر في السبعينات، ومن ثم الصين والاتحاد السوفياتي إلى مواقف أكثر ودًا تجاه الغرب. لكن بعد مرور سنوات، نرى أميركا تقف ضد مصر، وتستعد لمواجهة مع الصين التي تفوقت عليها اقتصاديًا، وتعاني من شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يهدد بزيادة ترسانة روسيا النووية.
من الخطب التي يلقيها خامنئي يتبين أنه يرفض تمامًا وجهة النظر الأميركية، ومع شعوره بالقلق من التوصل إلى اتفاقية شاملة، إلا أنه يعتبرها تصحيحًا لخطأ لحق بإيران، وبالتالي ليس مناسبة لقلب صفحة العلاقات، أي أن إيران لن تتحول إلى دولة صديقة للغرب. بالنسبة إليه، كل التنازلات الأميركية لن تلغي اعتقاده بأنها مؤامرة لإسقاط الطرف الآيديولوجي الذي يرأسه لمصلحة تعزيز الطرف البراغماتي، وأيضا للقضاء على الثورة الإسلامية، أي النظام، وهذه عملية يصر هو على منعها، وقد قال صراحة: إن مستقبل إيران يكون في الاعتماد على «اقتصاد المقاومة» المستقل، وليس إطلاقا على الغرب أو على الاستثمارات الأجنبية.
انطلاقًا من هذا، ومن خطابه المطول الأخير، حيث رفع سقف الممنوعات عاليًا، يمكن التكهن بأنه غير مستعد للتوصل إلى اتفاق يتوافق مع ما تسعى إليه الولايات المتحدة. ويقول مصدر غربي. يجب أن نتذكر أنه في أبريل الماضي في لوزان، رفض الإيرانيون بشكل قاطع التوقيع على أي شيء، ورفضوا حتى مصافحة أيدي الأطراف الأخرى، ويمكن ألا تكون نتيجة المفاوضات الأخيرة في شكل اتفاق بين إيران والولايات المتحدة، إنما قد يتم نقلها إلى مجلس الأمن لإصدار قرار.
برأي خامنئي أن كل التنازلات التي تقدمها إدارة أوباما ليست عن سذاجة أو لاعتبارها خطوة تصالحية، بل هي في مفهوم السياسة الحقيقية سياسة متلاعبة وإمبريالية وتهدف إلى تغيير النظام في إيران ليس عبر عملية داخلية إنما عن طريق التلاعب السياسي الخارجي. هذه الأفكار تسكن عقل المتشددين في إيران ويستعدون منذ عدة سنوات لإحباط هذا النوع من المحاولات خصوصًا بعد الاحتجاج الذي اجتاح إيران عام 2009 فتسلقت الجماهير السطوح لتطالب بسقوط المرشد. ومن المؤكد أن النظام في إيران الذي أغلق كل مواقع التواصل الاجتماعي يتابع ما تنقله الإذاعات الغربية عن رغبة الإيرانيين بالتحرر من العقوبات كي يتاح لهم الانطلاق بحرية إن كان داخل إيران أو خارجها.
في 4 يونيو الماضي، وعلى قبر مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني أكد خامنئي موقفه من الولايات المتحدة: «يجب أن يعلم الجميع أن الغطرسة (أي أميركا) لا تزال ترصد أمتنا لأهميتها الجيوسياسية وثرواتها. الإمام الخميني حتى يومه الأخير كان هذا شعوره تجاه أميركا، وصفها بـ(الشيطان الأكبر)». وقال خامنئي: «يجب أن يعرف الجميع أن عدونا (أميركا) يهدف إلى السيطرة على إيران، وأنه يعارض المنظمات والمؤسسات الثورية مثل حزب الله، والحرس الثوري والباسيج، لأنه يعرف أنها السد العظيم الذي يمنع تسلله».
سيستمر خامنئي في عرقلة المفاوضات وعن عمد إحباط جهود الجانب البراغماتي، بالإصرار على مطالب لا يمكن تلبيتها، ويمكن حتى لو تم التوقيع على الاتفاق، منع الذين التزموا من تطبيق ما وقعوا عليه من انفتاح إيراني على التأثير الاقتصادي والسياسي والثقافي الأميركي والغربي، ولن يحمي الرئيس حسن روحاني تصريحه: «عجلوا بالاتفاق إذا كنتم تريدون وقف إيران من التعجيل في برنامجها النووي». ولوحظ في الأيام الأخيرة أنه حتى الإعلام الأميركي الذي كان يسوق الاتفاق مع إيران على أنه «قطعة حلوى» وليس «كأس السم»، بدأ مع خطاب خامنئي الأخير، يراجع مواقفه، حيث جاء في «الفورين بوليسي» يوم 29 من الشهر الماضي: أن مصداقية أي اتفاق تتوقف إلى حد كبير على قدرة المفتشين جعل إيران تلتزم الشق المتعلق بها في الصفقة، ولا تبني سرًا قنبلة (...) باختصار فإن عمليات التفتيش الصارمة وُجدت لجعل خامنئي يعرف أنه إذا قرر صنع قنبلة، سيتم اكتشاف أمره فورًا.
قد تدفع مواقف خامنئي المتصلبة، وتنازلات الإدارة الأميركية من أجل التوصل إلى اتفاق، بالكونغرس الأميركي إلى رفضه لأن القيادة الإيرانية لا تريد اتفاقا يحد من برنامجها النووي، إنما اتفاقا يرفع العقوبات عن إيران حتى تنطلق هي، حسب اعتقادها، في برنامجها للسيطرة على المنطقة!