عبد الباري عطوان
يُصادف اليوم الاثنين مرور الذكرى العاشرة لبدء “الاحداث” في سورية التي يعتبرها البعض في أوساط المعارضة وداعميها بأنها ثورة، بينما يراها البعض الآخر بأنها مؤامرة كونية، استهدفت تدمير سورية، وتفتيتها والقضاء على جيشها العربي الذي خاض اكثر من اربع حروب نصرة للقضية الفلسطينية استكمالا لمخطط تدمير العراق وجيشه واحتلاله وتغيير نظامه.
تكشف الرسائل الالكترونية للسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية التي تولت اشعال فتيل “الثورات” العربية وتجييش مئات الآلاف من المسلحين لتغيير الأنظمة في الدول العربية المعادية لإسرائيل، وان سورية كانت على رأس القائمة، وان توظيف الإسلام السياسي ليكون رأس الحربة في هذا المخطط المحكم الاعداد.
تابعنا عمليات التجييش هذه عن كثب، وشاهدنا كيفية رصد مئات الملايين “لإغواء” عشرات المسؤولين السوريين من جنرالات في الجيش والامن وسفراء ودبلوماسيين للانشقاق عن الدولة السورية، وحصل احد رؤساء الوزارة على 50 مليون دولار للانضمام الى المعارضة بإعتراف رسمي بالصوت والصورة للوسيط الذي قام بهذه المهمة، ومهمات أخرى مماثلة.
عملية التجييش هذه لم تتوقف عند البسطاء والسذج وشملت رجال دين كبار ومرجعيات إسلامية لها ثقلها وتأثيرها في العالمين العربي والإسلامي، ولا يمكن ان ننسى كيف اعلن هؤلاء الجهاد في سورية واغلقوا السفارة المصرية في القاهرة، ولم يفعلوا الشيء نفسه للسفارة الإسرائيلية التي لم تبعد الا بضعة امتار من مقر اعلانهم.
فتاوى عديدة صدرت بتكفير الملايين من أبناء الشعب السوري، وبالتالي اعدامهم لانهم من مذهب او دين مختلف، وكان لافتا ان جميع الدول التي استهدفتها هذه الثورات والاحتجاجات، كانت دولا غير طائفية، ويسودها الحد الأدنى من التعايش بين المذاهب والاعراق، وتدعم شعوبها المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، مثل العراق وسورية ومصر واليمن وتونس، وتقف معظم حكوماتها في الخندق المواجه لأمريكا ومخططاتها التدميرية.
***
عشنا في لندن عمليات التحضير للعدوان الأمريكي على العراق عام 2003 بإشراف امريكي بريطاني مباشر، وتابعنا كيفية تجنيد السياسيين والمثقفين، وعقد المؤتمرات، والتوظيف الإعلامي المبرج، مثلما تابعنا كيفية تأسيس المحطات الفضائية وضخ الملايين من الدولارات للتحضير لمخطط تدمير سورية، ومن المفارقة ان من جرى تجنيدهم اصبحوا قادة في المعارضة، ونجوما على محطات تلفزيونية في الوطن العربي.
وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما كان اول من علق الجرس، ونبه الى هذا المخطط عندما صرح في مقابلة مع احدى محطات التلفزة الفرنسية 15/6 2013، بأنه في عام 2007، واثناء زيارته الى بريطانيا تلقى عرضا رسميا للمشاركة في اعداد مخطط لتدمير سورية واطاحة النظام فيها.
ايهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها قال في تصريح له بتاريخ 28/3/2011، انه يجب علينا العمل مع المعارضة السورية لإسقاط الحكم في سورية، وكرر المطلب نفسه افيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي في 12/11/2011.
الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري، اول جسم للمعارضة جرى تأسيسه في الدوحة، حدد اهداف “الثورة” السورية في تصريح مع صحيفة “وول ستريت جورنال”، نشر بتاريخ 11/5/2011 عندما قال “ان اول شيء سنفعله بعد تولي الحكم قطع العلاقات مع ايران، وحزب الله، وكافة الفصائل الفلسطينية، والتخلي عن المطالبة بالسيادة على لواء اسكندرون”.
الشيح حمد بن جاسم، رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، قدم خدمة لا تقدر بثمن للمؤرخين عندما قال في مقابلات صحافية عدة ابرزها للسيدة رولا خلف، نائبة رئيس تحرير صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية، ومحطةBBC العربية، ان ولي عهد دولة قطر في حينها الشيخ تميم بن حمد قدم عرضا بحوالي 15 مليار دولار للرئيس السوري مقابل قطع العلاقات مع طهران، واكد ان دولة قطر دعمت الجماعات المسلحة في سورية بمئات الملايين من الدولارات، ولم تدفع دولارا واحدا الا بالتنسيق مع الحكومة الامريكية، وكشف انه جرى نقل دولته من مقعد القيادة الى المقاعد الخليفة، ومن الصعب نسيان مقولته الشهيرة “تهاوشنا على الطريدة (الصيدة) وطارت من بين أيدينا” في إشارة الى المملكة العربية السعودية.
عامل النفط والغاز كان وما زال من أسباب المؤامرة على سورية، سواء بشكل غير مباشر، عندما رفضت الحكومة السورية مرور أنبوب الغاز القطري الى تركيا ومن ثم أوروبا لمنافسة الغاز الروسي، او بشكل مباشر عندما أعطت سورية حق التنقيب عن الغاز والنفط في مناطق شرق الفرات لشركات صينية وروسية، وليس لامريكية غربية، وكان من المفترض ان يرتفع دخل سورية من النفط لو لم يتم المخطط المؤامرة الى اكثر من 50 مليار سنويا في السنوات الأولى.
اللافت ان جميع الدول التي انفجرت فيها الثورات العربية او كانت هدفا للتدخلات العسكرية الامريكية (العراق وليبيا واليمن) غنية بالاحتياطات النفطية والغازية باستثناء تونس، وكشف الرئيس دونالد ترامب عن هذه الحقيقة، أي السيطرة على هذه الاحتياطات السورية عندما قال في تصريح عام 3/10/2019، نحن موجودون عسكريا في سورية من اجل السيطرة على آبار النفط والغاز وحرمان الدولة السورية من عوائدها، وكان هذا التصريح من اهم التصريحات التي اطلقها وتلخص حقيقة المخططات الغربية الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، الى جانب اعترافه بأن بلاده انفقت 90 مليار دولار ولم تنجح في تغيير النظام في دمشق.
***
الجيش العربي السوري صمد طوال السنوات العشر الماضية، وقاتل على اكثر من عشرات الجبهات في الوقت نفسه، واستعاد اكثر من 70 بالمئة من الأراضي السورية، وحافظ بذلك على الدولة السورية ووحدتها الترابية، ومن المؤكد انه سيستعيد ما تبقى بدعم حلفائه.
نعترف بوجود تجاوزات مرعبة لحقوق الانسان في سورية، وارتكبت اجهزتها الأمنية اخطاء وتجاوزات مرعبة في حق خصومها، واساءت قيادتها تقدير حجم المؤامرة وضخامتها، وتواطؤ بعض الدول “الصديقة” سابقا معها، وخاصة تركيا، وكنا من ابرز المنتقدين لهذه التجاوزات، وانتهاكات حقوق الانسان، وتعرضنا للكثير من الاستهدافات، والمضايقات، ولكن ليس هنا مجال سردها.
لا بد من الاعتراف بأن مهمة التصدي للمؤامرة واحباطها لم تكتمل بعد، وان هناك اخطارا وتحديات عديدة ما زالت تهدد الدولة السورية، سواء الاحتلال التركي، وعمليات التتريك في الشمال الغربي، او التمرد الكردي المدعوم أمريكيا في الشمال الشرقي، وفوق هذا وذاك معركة إعادة الاعمار بشقيها السياسي والمادي، ولكن إدارة الازمة بفاعلية ونجاح طوال السنوات الماضية ربما يكون مؤشرا مطمئنا للكثيرين في هذا المضمار رغم الخسائر الضخمة، فأين كانت سورية قبل عشر سنوات واين أصبحت الآن؟
معظم خصوم سورية يتراجعون في مواقفهم، وها هو الرئيس اردوغان يغازل مصر، ويتودد الى السعودية، ويتقرب من نتنياهو، ويخسر الكثير من أوراقه وشعبيته في الوسطين العربي والإسلامي، وها هي معظم دول الخليج تعيد فتح سفاراتها في دمشق، وتطالب بعودتها الى الجامعة العربية، وترسل المساعدات لتخفيف المعاناة الإنسانية، والاهم من ذلك حالة الصحوة التي بدأت تسود أوساط الملايين من السوريين في الداخل والخارج بعد اتضاح معالم الخديعة، وحملات التزوير الإعلامي، وتحول بعض أبنائهم الى قوات “مرتزقة” تقاتل حروب الغير مقابل المال، وتخلي معظم العرب والغرب عن المعارضة بعد انتهاء دورها.
سورية تجاوزت معظم فصول المؤامرة واوشكت على الخروج من عنق الزجاجة ان لم تكن خرجت فعلا، وهذا الإنجاز ما كان له ان يتحقق لولا ثقة قيادتها منذ اليوم الاول بشعبها وايمانها الراسخ بأن ثمن الاستسلام اضخم بكثير من ثمن الصمود.
نختم هذه المقالة بالتأكيد على ضرورة المصالحة الوطنية، وطي صفحة الماضي رغم آلامها، وبناء سورية الجديدة على أرضية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة واحترام حقوق الانسان، من اجل عودتها قوية معافاة لتحتل مكانها الذي تستحقه في صدارة الدول، ولا يخامرنا ادنى شك في ذلك.. والأيام بيننا.