عبد الباري عطوان
أن يظهر إيمانويل ماكرون على شاشة “الجزيرة” ويُؤكّد “أنّه يتفهّم مشاعر المُسلمين إزاء الرّسوم الكاريكاتوريّة المُسيئة للرسول محمد “صلى الله عليه وسلم”، ويُبرّر مَواقفه المُدافعة بشَراسةٍ عن هذه الرّسوم بقوله “إنّ ردود الفِعل كان مصدرها أكاذيب وتحريف لكلامه ليظهر بأنّه مُؤيّد لهذه الرّسوم” فإنّ هذا يُشَكِّل تراجعًا من قبله، ومُحاولةً للنّزول عن الشّجرة، وانتصارًا لحملة المُقاطعة للبضائع الفرنسيّة التي سادت مُعظم أنحاء العالم الإسلامي، ولكنّه “تَراجُعٌ” لا يكفي، ويجب على الرئيس الفرنسي أن يعتذر بكُلّ وضوحٍ لحواليّ مِلياريّ مُسلم على الضّرر المعنوي الكبير الذي ألحقه بهم، ففي هذا الاعتِذار مصلحة فرنسيّة قبل أن يكون مصلحة إسلاميّة، خاصّةً أنّ هذا الضّرر قد وقع، والجُرح الذي نجم عنه ما زال عميقًا.
القائد الذّكي يجب أن يتصرّف بأعلى درجات المسؤوليّة، أن يقيس كلماته، ومواقفه، بمِيزانٍ من الذّهب، وأن يبتعد عن كُل ما يُمكن أن يُعرّض أمن بلاده واستِقرارها للحظر، ولكنّ الرئيس ماكرون تصرّف للأسف بطَريقةٍ أقرب إلى عقليّة بلطجيّة الحَواري، وزُعماء عِصابات “المافيا”، ومُحرّضي الحُروب الصليبيّة، وليس كرئيسِ دولة من المُفترض أنّها دولة حضاريّة تتباهى بإرثِها التّنويري وتُواجه انتشارًا غير مسبوق لوباء الكورونا وصل إلى مُعدّلاتٍ قياسيّةٍ (أكثر من 50 ألف حالة إصابة يَوميًّا)، ممّا أدّى إلى إغلاق البِلاد، وبداية انهِيارٍ مُؤكَّدٍ للاقتِصاد الفرنسي.
***
كان على الرئيس ماكرون أن يتّعظ من إدارة التّعليم في جارته الأقرب بلجيكا التي طردت مُدرِّسًا عرض أحد الصّور المُسيئة للرّسول التي نشرتها مجلة “الفِتنة” شارلي إيبدو على تلاميذه الصّغار (أعمارهم من 10 إلى 11 عامًا)، أو من رئيس وزراء كندا جاستين ترودو الذي سارع بالرّد عليه، والتّأكيد “أن حريّة التّعبير ليست بلا حُدود.. ومن واجِبنا كغربيين أن نتصرّف باحترامٍ تُجاه الآخرين، وأن نسعى إلى عدم جرح مشاعرهم”، ولكنّ الرئيس ماكرون الذي أعماه جشعه إلى السّلطة، تصرّف بغطرسةٍ استعماريّةٍ سترتد دمارًا عليه وعلى اقتِصاد بلاده، ومكانتها الدوليّة.
وإذا كان الخير قد يأتي من باطِن الشّر، فإنّ الجانب الإيجابي لتصريحات ماكرون الاستفزازيّة هذه توحيدها لشُعوب العالم الإسلامي (حواليّ مِلياري مُسلم) في جبهةٍ واحدةٍ هبّوا جميعًا في الدّفاع عن عقيدتهم ورسولهم، وذابت في هذه الهبّة كُل التّقسيمات الطائفيّة الزّائفة والتّقسيمات بين شُعوب مُتطرّفة وأُخرى مُعتدلة، فربّما ينطبق هذا التّوصيف على الأنظمة والحُكومات، ولكنّه قطعًا لا ينطبق على الشّعوب عندما يتعلّق الأمر بالرّموز المُقدّسة وثوابت العقيدة والمَس برسول الرّحمة والإنسانيّة.
ولعلّ موقف الشّعب الكويتي المُشرّف الذي رفع لِواء المُقاطعة للبضائع الفرنسيّة مُنذ اللّحظة الأُولى، وكان رائدًا وقُدوةً للجميع، يُجَسِّد رسالةً واضحةً المعالم، ليس للرئيس ماكرون فقط، وإنّما لكُلّ الزّعماء الغربيين الذين ولغوا في التّآمر على العرب والمُسلمين، وبهدف زعزعة استِقرارهم وأمنهم، ودعم أعدائهم، فالعِبرَة ليست في الحجم ولا في العدد السكّاني، وإنّما بإرادة الفِعل، فهذه الهبّة الكويتيّة أدّت إلى “تجميد” تبادل تجاريّ بين البلدين (الكويت وفرنسا) يصل إلى 21 مِليار دولار سنويًّا، وإذا وسّعنا الدّائرة أكثر فإنّ الضّرر قد يمتدّ إلى 300 مِليار دولار حجم الاستِثمارات الخليجيّة وحدها في فرنسا.
نطرح هذه الأرقام لأنّنا نعرف أنّ أكثر ما يُقلِق الدول الرأسماليّة الغربيّة ويُؤلمها، هو توجيه الضّربات إلى جُيوبها، لأنُها الأكثر إيلامًا وتأثيرًا، وربُما لهذا السّبب بدأ الرئيس ماكرون مسيرة التّراجع بتصريحاته المَذكورة آنفًا، في مُحاولةٍ يائسةٍ لتَطويق الأزَمة، وتقليص الأضرار.
إنّنا لا نَستبعِد في هذه العُجالة النظريّة الرّائجة هذه الأيّام التي تقول بأنّ مُنفّذ عمليّة كنيسة نوتردام في نيس جرى تجنيده، أو غسل دماغه، من قبل أحد أجهزة المُخابرات الغربيّة، وربّما الفرنسيّة، للإقدام على هذا العمل الإرهابي، فمُعظم الجماعات الإرهابيّة التي تتكاثر في أكثر من قُطرٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ وُلِدَت في الحاضِنات الاستِخباريّة الغربيّة، ورسائل هيلاري كلينتون الإلكترونيّة التي جرى الإفراج عنها أخيرًا تُؤكّد هذه الحقيقة.
***
خِتامًا نقول إنّ ماكرون ارتكب خطيئةً كُبرى في حقّ الإسلام والمُسلمين، وأحدث بعُنصريّته، وقصر نظر سِياساته، شرخًا كبيرًا في العُلاقات بين بِلاده والعالم الإسلامي، سيحتاج الأمر إلى سنواتٍ لتجسيره، والخطوة الأولى والأهم في هذا الإطار هي الاعتِذار الصّريح دُون مُواربةٍ.. فهل يفعلها ماكرون وسريعًا؟ اللُه أعلم.