عبد الباري عطوان
غادر دونالد ترامب البيت الأبيض “حرَدًا” ومن الأبواب الخلفيّة دُون أن يكون إلى جانبه أيّ من مُساعديه أو وزرائه الخلص، مُتوَجِّهًا إلى مُنتجعه الخاص في فلوريدا، الأمر الذي يَعكِس نهايته المأساويّة في الوقتِ الرّاهن على الأقل، ومن غير المُستَبعد أن يُواصِل عمليّات التّدمير لحزبه، والولايات المتحدة وتعميق حالة الانقِسام الحاليّة.
خِطاب التّنصيب الذي ألقاهُ جو بايدن في البيت الأبيض لم يَكُن باهتًا فقط، وإنّما جاء انعِكاسًا حقيقيًّا للأزَمة الأمريكيّة، واعتِرافًا بها، وحجم التحدّيات القادمة، وتَوَسُّلًا لوحدةٍ وطنيّة يتَعمّق شرخها، ومُواجهة حربًا أهليّة تَطُل برأسها، ولكنّ التَّوسُّل ليس من خِصال القادة التّاريخيين.
نهاية ترامب المُفتَرضة، ستكون نهايةً لعصر الكذب والإثارة والمُغامرات السياسيّة، وفرض العُقوبات، وتحريك حامِلات الطّائرات والغوّاصات، وبداية مرحلة “التّرميم” المُفتَرض لأمريكا مُنهارة غامضة المُستقبل، ومهزوزة الهُويّة والسّمعة، وأكثر ضعفًا من أيّ وقتٍ مضى فاقدةً الثّقة داخليًّا وخارجيًّا.
ترامب فَشِلَ في تحقيق جميع وعوده للأمريكيين، وأبرزها أن يُعيد القوّة لبلاده، وتفكيك القوّة الصينيّة الصّاعدة المُنافسة، مثلما فشل في تغيير النّظام الإيراني، ونزع الأسلحة والأنظمة الصاروخيّة الجبّارة للنّظام الكوري الشّمالي، والشّيء الأبرز الذي نجح فيه هو إذلال العرب وسوقهم كالقطيع إلى مِصيَدة التّطبيع مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، ونهب مِليارات الدّولارات من خزائنهم، ولكنّ هذا لا يعني أن وعود بايدن بمُكافحة العُنصريّة، وتحقيق الوحدة الوطنيّة، وتجسير هُوّة الانقِسامات، واستِعادة الزّعامة العالميّة أفضل حالًا.
***
السّنوات الأربع من عُمر إدارة ترامب في السّلطة كانت الأخطر بالنّسبة آلى “الإمبراطوريّة” الأمريكيّة، وربّما تكون نهايتها نُقطة البِداية لانهِيارها، بصُورةٍ أسرع ممّا يتَصوّره الكثيرون، فانهِيار الامبراطوريّات العُظمى في التّاريخ بدأ من هزائم الدّاخل التي مهّدت لهزائم الخارج، ولن يستطيع بايدن العجوز الهَرِم الذي يَقِف على عتبة الثّمانين الوقوف في وجه هذا الانهِيار، ناهِيك عن مَنْعِه.
يُخطِئ الكثيرون عندما يُحاولون التّقليل من بُذور الانهِيار التي بذَرها الرئيس ترامب في البيئة الأمريكيّة طِوال فترة حُكمه، بقصد أو بُدون قصد، وعندما يقول في تصريحه المُقتَضب الذي أطلقه وهو يَصعَد على سُلَّم الطّائرة الرئاسيّة التي نقلته للمرّة الأخيرة من باحة البيت الأبيض إلى “المجهول”، أنّه سيعود إلى السّلطة بطَريقةٍ أو بأُخرى، فإنّه يَرسُم ملامح خريطة طريق، سواءً حظيت هذه الخريطة بالنّجاح أو الفشل، وفي الحالين قد تكون نتائجها مُدمِّرةً لأمريكا التي نَعرِفها، وإغراقها في نزيفين: أحدهما دمويّ، والآخَر ماديّ اقتصاديّ.
ترامب يُريد تأسيس حزبًا قوميًّا جديدًا يقوم على “فوقيّة” العِرق الأبيض، وكراهيّة الأجانب، وإحياء تُراث أجداد العُنصريين الأوائل الذين غزو أمريكا و”طهّروها” من سُكّانها الأصليين، أرضيّة هذا الحزب 74 مِليونًا من النّاخبين أعطوه أصواتهم في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، ويُمثّلون 70 بالمِئة من الجُمهوريين.
الإنجازات التي يتحدّث عنها ترامب بفَخرٍ هي إحياء العُنصريّة البيضاء في أوساط الرّيفيين المُهمّشين الذين نصّب نفسه مُتحَدِّثًا باسمهم، مُتبَنِّيًا لمطالبهم، مُنتَصِرًا لمظالمهم، تمامًا مثلما فعل هيتلر في ألمانيا، وموسيليني في إيطاليا، وأخيرًا مُنظّري “البريكست” في بريطانيا حُلفاء ترامب في القارّة الأوروبيّة.
أن نَسرُد هذه المخاوف، ونُسَلِّط الضّوء على مخاطرها، لا يعني أننا نتنبّأ بنجاحها أو فشلها، وإنّما مُحاولة لرسم صورة أوّليّة تقريبيّة لما يُمكن أن يحدث في الشّهور والسّنوات المُقبِلَة لدولةٍ هيمنت على مُقدّرات العالم لِمَا يَقرُب من أربعين عامًا، وكانت الوريث الأسوَأ للاستِعمار الأوروبي.
***
ترامب الآن سيتَقمّص دور “الشّهيد” وسيَجِد الولاء من عشَرات الملايين من أنصاره الذين يُشَكِّلون قنبلةً موقوتةً في الجسم الأمريكي تنتظر شرارة التّفجير في أيّ لحظةٍ.
ترامب يتباهى بأنّه لم يَخُض أيّ حرب في سنواته الأربع في البيت الأبيض، وهذا صحيح، لأنّه كان جبانًا وعاجِزًا عن الإقدام على هذه الخطوة ضدّ الصين وكوريا الشماليّة وإيران، ولم يَستأسِد إلا على القادة العرب الضُّعفاء لسَببٍ بسيط يعود إلى إدراكه أنّه لن يَكسَب هذه الحُروب، وحتى لو كَسِبَها فإنّه انتصارٌ أضخم ثمنًا وأكثر كُلفةً من الخسارة.
أمريكا بايدن تَقِف حاليًّا على حافّة الانهِيار ومن ثمّ الفوضى والتّغيير، وليس أنظمة الشّرقين الأقصى والأوسط التي تَوعّدها ترامب وحُلفائه الإسرائيليين بالتّغيير.. وعجلة هذا التّغيير بدأت اليوم في الدّوران في مراسم الاحتِفال بنقل السّلطة في باحِة البيت الأبيض.. والأيّام بيننا.