عبد الباري عطوان
نعيش في أوروبا مُنذ 42 عامًا، وحصلنا على درجتنا العلميّة العُليا في أحد جامِعاتها المشهورة، وما نراه حاليًّا من مُضايقاتٍ واستفزازاتٍ للأجانب، والمُسلمين منهم بشكلٍ خاص، غير مسبوق، ويُهدّد السلّم الاجتماعي في هذه البُلدان، وانفِجار حُروبٍ أهليّة.
نحن نتحدّث هُنا عن فرنسا، والحملة الشّرسة التي يشنّها الرئيس إيمانويل ماكرون ضدّ ما يَصِفه بـ”الإسلام المتطرّف”، شمِلَت حتّى الآن إغلاق 328 مسجدًا ومدرسة، وناديًا، كردّ فعلٍ على إقدامِ شابٍّ شيشانيٍّ على جريمة قطعه رأس أستاذ تاريخ عرض على تلاميذه صُورًا كرتونيّةً عاريةً، وبشكلٍ بذيءٍ استِفزازيّ، نخجل من وصفه، للرّسول محمد ﷺ.
لا نُجادل مُطلقًا، بأنّ عمليّة القتل للأستاذ صامويل باتي على يد مُراهق شيشاني مُسلم لا يزيد عُمره عن 18 عامًا، هي جريمةٌ مُدانةٌ، وتَحدُث يوميًّا جرائم مِثلها في مُختلف المُدن الأوروبيّة وغيرها، ولكنّ الخطر يَكمُن في تصنيفها في خانة “الإرهاب الإسلامي” وتجريم القاتل، وتحويل الضحيّة إلى بطلٍ، دون أيّ إشارة، أو إدانة، إلى عمله الفاضح، وتوجيه أيّ لومٍ له، الأمر الذي يَصُب في مصلحة نشر العنصريّة والطائفيّة، وتشجيع حُدوث المزيد من الإساءة لدِينٍ سماويٍّ يقترب عدد مُعتَنقِيه من المِليارين.
نعم هُناك مُتطرّفون في أوساط الجاليات الإسلاميّة في أوروبا، ولكنّ هؤلاء يظلّون أقليّة الأقليّة، والمُسلمون “المُعتدلون” الأغلبيّة السّاحقة يُعانون أكثر من نُظرائهم الفرنسيين “اللّيبراليين”، وأقل هذه التّهم هي “الكُفر” والردّة، ومع ذلك يستمرّون في “التّعايش”، ولكنّ كُل الشرائع لا تُحمّل الأكثريّة مسؤوليّة أفعال الأقليّة إلا في فرنسا ماكرون للأسف التي تتغوّل في ردودِ فِعلها التمييزيّة الانتقاميّة.
***
من دعم هؤلاء المُتطرّفين، ووفّر لهم البيئة الحاضنة في “غيتوهات” فقيرة، مُعدمة، منبوذة في هوامِش المُدن الفرنسيّة الكُبرى، وعاملهم بطريقةٍ عنصريّةٍ تمييزيّةٍ في العمل والصحّة، والتّعليم، هي الحُكومات الفرنسيّة قصيري النّظر، الاستعماريّة التوجّه، السّابقة منها والحاليّة.
ماذا يتوقّع الرئيس ماكرون عندما يختار وزيرًا مُتطرّفًا عُنصريًّا للداخليّة يُعارض وجود أقسام خاصّة في المحلّات التجاريّة الكُبرى للطّعام “الحلال”، بينما لا يعترض مُطلقًا، وعلى مدى عشرات السّنين لوجود قسم خاص للطّعام اليهودي “كوشر” على سبيل المِثال لا الحَصر، ويُطالب بإزالة هذه الأقسام “الإسلاميّة” فورًا باعتِبارها منظرًا مُنفّرًا و”مُقزّزًا”، والقائمة تطول..
جميع المساجد التي تُتّهم بالتطرّف من وجهة نظر الحكومة الفرنسيّة، بناها وأشرف على إدارتها، ووظّف أئمتها دول إسلاميّة حليفة للغرب، وتُعتبر السّوق الرئيسيّة لصادرات الأسلحة الفرنسيّة، ونقصد هُنا دول الخليج والمملكة العربيّة السعوديّة على وجه الخُصوص، وهذه هي أحد ثِمار هذه السّياسات الماديّة القصيرة النّظر.
يسرّنا أن نُذكّر الرئيس ماكرون الذي يقود حملات التّكريه ضدّ الإسلام والمُسلمين في كُل أوروبا، أنّ بلاده هي التي شجّعت المتطرّفين الإسلاميين في فرنسا على الذّهاب إلى سورية للمُساهمة في إسقاط نظام علماني بعثي، وذهب رئيس الوزراء الفرنسي مصحوبًا بنظيره البريطاني ديفيد كاميرون إلى بروكسل لاستِصدار قرار برفع حظر السّلاح عن سورية لتمكين هؤلاء “الجِهاديين” من الحُصول عليه لإنجاز مهمّتهم بأسرعِ وقتٍ مُمكن، وعندما فَشِلوا في تحقيق هذا الهدف جرى التخلّي عنهم، ورفض الاعتِراف بمُواطنتهم، تمامًا مثلما حصَل مع نُظرائهم المُجاهدين الأفغان.
نزيد السيد ماكرون من الشّعر بيتًا، ونقول إنّ رسائل السيّدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السّابقة، ونأمل أن يكون قد اطّلع عليها، تضمّنت وثائق تُؤكّد أنّ الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي كان من أكثر المُتحمّسين لإرسال طائرات “النّاتو” إلى ليبيا، وتغيير النّظام ليس لأنّه ديكتاتوريًّا، وليس لنشر قيم الثّورة الفرنسيّة في العدالة وحُقوق الإنسان، والحريّات الشخصيّة والتعبيريّة، وإنّما لأنّ العقيد معمر القذافي اشترى 143 طنًّا من الذّهب، ومِثلها من الفضّة، تمهيدًا لإصدار الدينار الإفريقي لتحرير القارّة من احتِكار الدّولار واليورو والعُملات الأوروبيّة الأُخرى.
نحن ضدّ التطرّف وكافّة أشكال الإرهاب، يهوديّةً (في فِلسطين المحتلّة)، أو مسيحيّة (الحُروب الصليبيّة)، أو إسلاميّة، ومع التّعايش الحقيقي وعلى قدمِ المُساواة بين جميع الأديان السماويّة ومُختلف الأعراق، ولكن ما نُعارضه هو التّمييز، وحصر هذا الإرهاب بالمُسلمين دُون غيرهم رغم أنّهم الضّحايا الرّئيسيّين للاستِعمار الغربي، وتاريخه الحافِل في هذا المِضمار، ولا نعتقد أنّ هُناك دولة في العالم غير فرنسا تُقيم متحفًا لجماجم الآلاف من المُجاهدين الجزائريين الأبطال الذين قاوموا استِعمارها لبلدهم لعشَرات السّنوات وقدّموا أكثر من مِليون شهيد.
الإسلام السياسي المتطرّف هو صناعة أمريكيّة وأوروبيّة، وجرى توظيفه في أفغانستان والعالم بأسْرِه لمُحاربة الشيوعيّة وتفكيكها انتقامًا من هزيمة أمريكا في فيتنام، ولا يُضيرنا نقل اعتراف الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، بتمويل دولته لهؤلاء المُتطرّفين بمِليارات الدّولارات وتسليحهم، بتعليماتٍ أوروبيّة وأمريكيّة لإنجاز هذه المَهمّة، بعد أن تمّ إنجازها فِعلًا، وجرى التخلّي عن هؤلاء مثلما يتخلّى ماكرون عن مناديله الورقيّة بعد استِخدامها.
الرئيس الفرنسي، وبعد أن خَسِر الكثير من شعبيّته أمام اليمين المتطرّف بقِيادة مارين لوبن زعيمه الجبهة الوطنيّة، وبما قد يؤدّي إلى خسارته الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة المُقبلة، يُريد أن يظهر مِثل “حليفة” دونالد ترامب بمظهر “السّوبرمان” وقدوة التطرّف على الجانب الآخَر، أيّ خندق “الإسلاموفوبيا”، ويَستأسِد بالتّالي على الفُقراء والمَسحوقين الفرنسيين أتباع الدّين الإسلامي الحنيف.
***
دول كثيرة تتواجد فيها جاليات إسلاميّة مُهاجرة وتعرّضت لعمليّات إرهابيّة، مِثل الدّهس والذّبح وقطع الرّؤوس، وعلى رأسها بريطانيا التي نُقيم فيها، ولكنّها لم تُغلق المساجد، ولم تُحرّم الحجاب، وتُزيل الطّعام الحلال من أرفف “السّوبرماركت”، ليس حُبًّا في المُسلمين، وإنّما حِرصًا على دُستورها وأمنِها واستِقرارها، و”التّعايش” بين جميع ألوان الطّيف الدّيني والمُجتمعي فيها من إطار استراتيجيّة لا تقوم على “النّزق” وردّ الفِعل، وإنّما وفق خطط “ذكيّة” بعيدة المدى مدروسةٍ بعنايةٍ، وبدأت في إعطاء ثِمارها الإيجابيّة تعايُشًا واندِماجًا حتّى الآن على الأقل.
العنصريّة ممنوعةٌ ومُحاربةٌ بعُنف في ملاعب كرة القدم البريطانيّة، والفرق الكرويّة تركع على رُكبةٍ ونِصف قبل بِدء كُل مُباراة، تعاطفًا مع المُواطن الأمريكي من أصولٍ إفريقيّة جورج فلويد، الذي اغتيل خنقًا بطريقةٍ بشعةٍ تحت رُكبة شرطي عُنصري أمريكي، وبات رمزًا للمُضطّهدين في العالم.
الزّعماء العرب تقاطروا إلى باريس للتّضامن مع ضحايا الهُجوم الإرهابي على مجلّة تشارلي إبدو، وارتدوا قُمصانًا تقول كُلّنا “تشارلي”، فكم زعيم أوروبي ذهب إلى نيوزيلاندا للتّضامن مع ضحايا الهُجوم الإرهابي في عاصِمتها؟ نسأل السّؤال ولا ننتظر إجابة.
نختم بالقول، إنّ سياسة ماكرون وحُكومته الاستفزازيّة، والمُبالغ فيها، ضدّ المُهاجرين المُسلمين في فرنسا حيث يقترب عددهم من العشرة ملايين على الأقل، ودُون إحصاءِ الأفارقة، والأعراق الأُخرى ستُعطِي نتائج عكسيّة ترتد سلبًا على أمن فرنسا، واستِقرارها.. والأيّام بيننا.