رضوان السيد
في العقدين الماضيين أقبلت المؤسسات الدينية (السنية) على التأهُّل والتأهيل في مواجهة تعقّدات الهوية، واندلاع التطرف والإرهاب باسم الدين أو دعاوى الإخلاص له. وكان ذاك التطرف والغلوّ قد تمكن من إطلاق تلك الراديكاليات الإجرامية، بارتفاع اندفاعات التدين والسمْتية التي أفضت إلى ظهور الإسلام السياسي. وقد حمل الإسلام السياسي على راياته الخطابية والانتخابية ودعوياته شعارات: الإسلام هو الحل، وتطبيق الشريعة؛ وإن لم يكن من طريق الدولة الوطنية؛ فمن طريق إزالتها كما حصل في الثورة الإيرانية. وعندما لم يفلح في هذا ولا ذاك، اتجه أو اتجهوا لمحاولة هدم النظام العالمي، وتخريب المجتمعات والدول في العالمين العربي والإسلامي.
تقدمت المؤسسات الدينية أو ما تبقّى منها - وقد كانت مستضعفة ومهمَّشة لفترات طويلة - لتأهيل نفسها في مواجهة الانشقاق الديني من جهة؛ ولاستعادة علاقات صحية وسليمة مع عوالم الديانات والثقافات التي وضعها التطرف الإرهابي في مواجهة الإسلام والمسلمين؛ من جهة أخرى. وأستطيع هنا أن أذكر عشرات المبادرات والإعلانات والوثائق والمؤتمرات الرامية جميعاً لتجديد الخطاب الديني أو تغييره، ولإنجاز شراكات مع أديان العالم. ومن ذلك: «رسالة عمّان والكلمة السواء» (2004 - 2007)، و«مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات» (2007)، فإلى بيانات الأزهر للدولة المدنية والحريات الأساسية منذ قيام الثورة المصرية عام 2011، ثم منذ عام 2014 مؤتمرات الأزهر ضد التطرف ولنُصرة الدولة الوطنية، ولإحقاق المواطنة، وإلى العمل من خلال مجلس الحكماء الذي انطلق من أبوظبي بدولة الإمارات، وصولاً، عبر مراحل عدة، إلى وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها شيخ الأزهر والبابا فرنسيس بأبوظبي في 4 فبراير (شباط) 2019. وهناك الخط الآخر الذي انطلق من أبوظبي أيضاً عبر «منتدى تعزيز السلم» برئاسة الشيخ عبد الله بن بيه، فأنتج وثائق وشراكات وإعلانات في التسامح والتعارف ومواجهة التطرف، والاستناد إلى «كتاب المدينة» وعهدها في دعم الدولة الوطنية القائمة على المواطنة والحقوق (مراكش 2017)، و«ميثاق حلف الفضول الجديد» (2019). وفي العام نفسه (2019) أصدرت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة: «إعلان مكة للمواطنة العالمية الشاملة».
لماذا أعددُ ذلك كله؟ أفعل هذا لأقول إن المؤسسات الدينية العربية والإسلامية (وبدعم من الدول طبعاً) قامت بجهود جبارة لمواجهة التطرف والإرهاب في البداية، ثم لتنشط في تغيير الخطاب الديني، والإطلال على العالم بوجه جديد للإسلام. لكننا نُطل في الأعوام القليلة المقبلة على مرحلة جديدة، لا تكفي فيها نشاطات المؤسسات، ولا إجراءات العالم الأمنية. الإرهاب ما انتهى طبعاً، ولننظر ليس في أهوال مخيم الهول فقط، بل وفي أحداث «بوكو حرام»، والهجمات الأخيرة في موزمبيق والصومال ومالي. لكنها، رغم ذلك، مرحلة جديدة، تعود فيها الهوية وإشكالياتها إلى الظهور بصور أخرى. فالفرقاء المتصارعون؛ دولاً أو تنظيمات مسلحة، أو كوادر آيديولوجية، كل هؤلاء يعملون على خُلاصات ونتائج لما حصل في مرحلة اشتعال الإرهاب، والتي يعدّها كل منهم لصالحه.
لقد تنبهتُ لهذا الأمر؛ ليس مما حصل في اتفاقية الحكومة الانتقالية السودانية مع «حركة عبد العزيز الحلو» فقط؛ بل لأن هناك مطالب مشابهة (فصل الدين عن الدولة) من جانب مثقفين ومعارضين في مصر وتونس والجزائر. في السودان والجزائر المضامين الحقيقية للتمردات صارت إثنية وقومية؛ لأن العربي انتساباً صار هو الإسلام، ومرة لأنه حاكم، ومرة لأنه سلفي أو محافظ. ولا تزال القتامة تظلل وجه الإسلام والعرب معاً. ولذلك؛ فإن الذين عارضوا أو قاتلوا في الماضي يجدون لأنفسهم الآن فرصة في الأجواء العالمية من جهة، وفي تعطش بشرنا للاستقرار والسلام بأي ثمن من جهة أخرى. لقد تعودتُ ألا أضع نفسي في موضع المسيحي العربي في الخطاب مهما بلغ انفتاحي؛ فهو يبقى الأقدر على التعبير عن مشاعره وهواجسه. لكنني أُحس في الآونة الأخيرة بأن مناقشة المسيحي العربي أسهل بكثير من «مجادلة» «العلماني» أو الذي يسمي نفسه كذلك. الهوية الوطنية في كل الأزمنة والظروف تتأسس على اللغة والأرض والدين العام، والعيش المشترك (الرأسماليون والماركسيون يتحدثون عن السوق الواحدة). وأنت تناضل لكي لا يزداد انقسام السودان أو الجزائر أو نيجيريا أو مالي... إلخ، وتريد في السودان المتعدد والفيدرالي أن تُبقي عاملاً جامعاً، فكيف يبقى الجامع من دون لغة ولا دين ولا عيش مشترك مع إطار جغرافي ضعيف؟ تجربة العراق تجربة معبِّرة بعد الغزو الأميركي؛ بل وقبله... إذ ما عاد هناك أي من ممارسات الجمع. وقد زارني عراقي كردي صديق منذ أربعين عاماً ومعه ولداه، فتحدث الأب بالعربية، وتحدثتُ مع الشابين بالإنجليزية! ما بقي للعراق حافظ إذن إلا سلطة الدولة الاتحادية المركزية!
إن شؤون الهوية الوطنية في هذا الزمان خليط من الرمزي والواقعي. ولأن الصراعات إثنية وقومية وسلطوية... ودينية أخيراً؛ فإن رجالات الدولة العقلاء الذين يصنعون سياسات العيش المشترك ويستثمرون نتائجها ينفعون أوطانهم ومواطنيهم، وليس رجالات المؤسسات الدينية وحدهم، والذين عملوا على استئناس المرارات، واستعادة السكينة في الدين، ويقال لهم الآن: بل إن الخطاب الديني هو المشكلة! وثوار «عبد العزيز الحلو» و«عبد الواحد نور» والذين يقاتلون الحكومات المركزية في السودان مع جون غارانغ وغيره وبعده منذ الثمانينات، ليسوا إسلاميين ولا مسيحيين؛ بل عندهم وعي مختلف (ما عاد آيديولوجياً في الحقيقة) بالإثني والقومي والأهم بالسلطوي. والانفصالات التي يصرون عليها باسم التعددية، مقصدها العميق الاحتفاظ بالسلطة التي تعودوا عليها ولو بأشكال محلية. وأنا أذكر السودان نموذجاً، لكن الظواهر هذه موجودة في عشرات الدول الأفريقية، خصوصاً في إثيوبيا بجوار السودان. وبالطبع؛ فإن السودان المحتاج إلى الهوية الجامعة محتاج إلى الرمزي وإلى اللغوي أو اللساني وإلى استعادة العيش المشترك، الذي يحس فيه الجميع بأنهم مشاركون. وهذه الأمور أو القناعات لا يتمكن من تخليدها في الذهنيات إلا رجالات الدولة الأقحاح من طريق مشاركة الجميع في «السلطة» والقرار. عرفتُ من أصدقائي السودانيين ومن مقالة لعثمان ميرغني في «الشرق الأوسط»، أن مئات المسلحين من الحركات الثورجية التي أجْرت اتفاقيات سلام مع الحكومة الانتقالية قبل «حركة عبد العزيز الحلو» دخلوا إلى الخرطوم وأم درمان بسلاحهم دخول الفاتحين فنشروا فوضى ضاربة، وأخافوا الناس. والسودان لا يملك الإمكانات لبناء ثكنات لهم ولإعادة تدريبهم وتأهيلهم في الجيش الوطني! والحديث الآن عن العدالة الانتقالية سابق لأوانه، فلا بد مرة أخرى من عقول وحكمة رجالات الدولة لصنع سياسات سلام واستقرار ومشاركة، لا تفيد في استحداثها الأوحدية الإسلامية، ولا السلطوية الفاصلة باسم العلمانية.
ما عادت الهوية حتى الإسلامية جامعة وإن ظلت ضرورية، فلم يبق جامع غير الدولة الوطنية التي تَسَعُ الجميع من دون غلبة ولا استسلام للتقسيم.