بقلم:رضوان السيد
بعد «طالبان» ما عادت الغمغمة ممكنة، ولا عاد التكرار مذموماً أو غير مبرَّر. فنحن المسلمين جزءٌ من العالم، بل نحن خُمس سكانه، ولا نستطيع الانفصال عنه. وما عاد التعزي ممكناً بأن القاعديين والدواعش يشكلون انشقاقات في الدين، وليسوا حُجة علينا ولا على ديننا. لقد ناضلنا طويلاً دولاً ومؤسساتٍ دينية ضد التطرف والإرهاب، وما كانت درجات التصديق من الأصدقاء ومن غيرهم عالية. بل إن دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي أيام بوش الابن، الذي توفي قبل شهور، وجه إلينا وإلى مواطنيه مطلبين. قال الغازي لأفغانستان والعراق من جهة إن الإسلام مخطوف وينبغي تحريره، وقال من جهة ثانية إنه من الضروري شنّ حرب أفكار على المتطرفين باسم الدين، وعدم الاكتفاء بالصراع المسلح معهم. إن الذي يدفعني للكتابة في هذا الموضوع من جديد أمران: إقدام «طالبان» ومن موقع الحكام هذه المرة على منع المظاهرات المطلبية من جهة - والمبادرة التي أطلقها الشيخ عبد الله بن بيه مفتي الإمارات، ورئيس منتدى تعزيز السلم لنشر السلم والسلام بين الناس ومع العالم من جانب «طالبان» الحاكمة في أفغانستان؛ من جهة ثانية! لقد قلت لنفسي إن مبادرة بن بيه تستحق عنوان: شن السلام باسم الإسلام!
ولنبدأ بإشكالية الشيخ أو الملا الحاكم. فقد أخذ عليّ بعض الزملاء أن عندي عقدة من مسألة الحكومة الدينية، لأننا منذ الشيخ محمد عبده نأخذ على بابوية العصور الوسطى أنها كانت سلطة كهنوتية، أي أن الكنيسة تحكم باسم المسيح، بينما ليس في الإسلام كهنوت أو سلطة كهنوتية، ولا أحد يحكم باسم الله. لكن الملالي (في إيران كما في أفغانستان) يتحدثون عن حكم الشريعة، وحكم الشريعة هذا يتولونه بأنفسهم باعتبارهم حكاماً. وقال لي آخرون: إن الدعوة السلفية تقول بحكم الشريعة. وبالطبع هناك أحكام شرعية تُطبقُ في المحاكم بحسب الاجتهادات في المذهب الفقهي السائد في هذا البلد المسلم أو ذاك. أما السياسات وأمور الشأن العام، وعلاقات الدولة الداخلية ومع الخارج فلا علاقة للمشايخ بها، وتحكمها المصالح العامة وآراء الخبراء في كل هذه الشؤون. والمهم أن الآمِرَ بها أو المقرر بشأنها هو الأمير أو الملك أو الحاكم أو الرئيس. وقد يستنير أو يستنصح الشيخ فيما له صلة بالشأن الديني أو له مساسٌ بتدين الجمهور أو تقاليده الدينية والعُرفية. وقد كان الملك عبد العزيز يبعث بعض كبار الشيوخ للوساطة لدى بعض أهل العصبيات القبلية الذين يرفعون شعارات دينية لكي يتجنب النزاعات وسفك الدم باسم الدين أو القبيلة. لكنه ما كان يتسامح فيما له علاقة بالمصالح العامة أو الاستقرار أو العلاقات بين فئات الشعب، وما له مساسٌ بالنظام العام. وما قال مشايخ المملكة مثل شيخ الأزهر عام 2012 بالدولة المدنية، لكنهم قالوا دائماً ويقولون إن الملك هو الحاكم وليس الشيخ ولو باسم الشريعة. وثنائية الشيخ والأمير عند قيام الدولة السعودية الأولى لا أثر لها في الواقع التاريخي أو الحاضر. وأنا مع الدكتور خالد الدخيل في أن التعاون بين الطرفين كان من أجل إقامة الدولة الواحدة بسبب شدة الافتقار إليها وسط فوضى الإمارات القبلية في نجد وأنحاء أُخرى في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ما كان الشيخ يتهم زعيم القبيلة أو البلدة بأقذع التهم أحياناً لأنه ليس على المذهب الحنبلي أو ليس على دين الإسلام، بل لأنه لا يدفع الزكاة للإمام، يعني لا يقول بولايته، فالأمر استعانة بالوازع الديني لدفع الفتنة والفوضى، لأنه لا بد للناس من سلطة (سياسية) أو أمير، كما قال الإمام علي - والوحدات الثلاث الضرورية منذ صدر الإسلام هي وحدة الجماعة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة. والوحدتان الأولى والثانية لا تتحققان إلا بالسلطة الواحدة المسيطرة. ولذلك قاتل أبو بكر الذين سُموا مرتدين، لأنهم ما كانوا يطيعون سلطة المدينة. وقد قال عمر: لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بطاعة! فكما قال الماوردي: إقامة الدولة أو الإمامة عقل وشرع.
ثم إن الدين أولاً وآخِراً قوة ناعمة، فما هي المصلحة للدين في أن يكون قوة قامعة؟! وكما قال ماكس فيبر (1864 - 1920): إن السلطة (السياسية) هي التي تملك (شرعية) الإرغام؛ بينما يقول الإسلام إنه لا يملك شرعية استخدام القوة لهدفٍ ديني، فلا إكراه في الدين.
إن كل هذه الاعتبارات العقلية والدينية والتاريخية والحاضرة، يجري الآن ومن قبل تجاهلها أو إنكارها لإعطاء الإسلام طابعاً عنيفاً، وليس من جانب المنشقين والصحويين فقط؛ بل ومن جانب بعض الملالي أو المشايخ الذين يريدون الحكم باسم الدين، وينشرون القتل الذريع باسمه، ويدفعون بذلك الناس للهجرة من البلاد بأي سبيل، فأي شهادة للإسلام بإيران أو أفغانستان إذا كان حكم الملالي في البلدين يدفع ملايين من الناس للهرب والتشرد، علاوة على الذين قُتلوا أو سُجنوا ويُقتلون أو يُسْجَنون!
ولنصل إلى المسألة الثانية: مبادرة الشيخ عبد الله بن بيه من أجل المصالحة والسلام في أفغانستان. وهو يخاطب الحكام الجدد للبلاد باسم الكليات الدينية، وباسم الرحمة والتعارف. كما يخاطبهم بمنطق التقدم الذي تحقق في عالم العصر وعصر العالم، ومقاصد الشريعة، بل وقواعد المذاهب الفقهية التقليدية لدى الأحناف والمالكية، كل ذلك يقتضي الرشد الإفادة منه. وأنا لا أبحث هنا في إمكانيات إصغائهم لهذا النداء الورِع والمستنير والحميم؛ بل أُريد الإفادة من نداء منتدى تعزيز السلم من وجهٍ آخر.
فبحكم الملالي انفتح علينا باب شرٍ جديد. ولستُ أزعم أن الشر محتوم، وإنما عندما سمعتُ أسماء وزراء الحكومة المؤقتة للملالي وكلهم من القادة العسكريين للحركة ازداد سوء ظني. فما أريد الوصول إليه ضرورة استنفار المؤسسات الدينية، والسلطات السياسية، للتنبه والتشاور والاجتماع معاً وليس كلٌّ على انفراد، من أجل تقوية مناعة المؤسسات والجهات، وتوثيق العلائق فيما بينها أو ما سميته: الاحتضان المتبادل.
إن ظاهرة «طالبان» تشير إلى أخطارٍ محتملة على الدين وسكينته وعلى الدولة واستقرارها. المؤسسات الدينية يزداد تعرضها للاختراق، والسلطات السياسية يكون عليها أن تزيد من عوامل المناعة بالتأمل والمراجعة لسياسات الدين من طريق التشارك مع أهل الدين وعلمائه الذين ما غرتهم جواذب التسلط باسم الدين طوال أكثر من قرنٍ من الزمان.
وأُكرر: المطلوب ثلاثة أمور: العمل معاً على استعادة السكينة في الدين، والعمل على تقوية وتجديد تجربة الدولة الوطنية، والاستمرار في النضال الفكري والسياسي من أجل علاقاتٍ طبيعية مع المحيط والعالم في الدين والفكر والسياسات.