بقلم: رضوان السيد
من أيام دوركايم (- 1917) في سوسيولوجيا المجتمعات الشرقية وانقساميتها، وإلى أيام أنثروبولوجيا الإسلام مع غلنر (- 1995) وغيرتز (- 2006)، ظلت هذه العوالم الآسيوية والأفريقية عصية على الإدارة وبناء الدول الحديثة. وكان هذا «الاعتقاد» أو كانت هذه «المقولة» في نظر نقّادها من الغربيين وتلامذتهم من الشرقيين الهنود والعرب هي الغطاء «العلمي» لآيديولوجيا «التحضير» الاستعماري. وقد مرّت على هذه المجتمعات والديانات الهائلة الحجم الموجتان: الوطنية/ القومية للتحرر من الاستعمار، والإثنية/ الدينية لإحقاق الأصاليات وبناء الوحدات الاجتماعية/ السياسية، وبقي المعسكران «العلميان» على حالهما: الخطاب الأول يستند إلى التجارب خلال قرنٍ وأكثر في ضرورات الاستيلاء أو التحكم من أجل فرض الانضباط وإعادة بناء المجتمعات والدول حفاظاً على الأمن الإنساني والدولي - وتيار نقد الخطاب الاستعماري يذهب جازماً إلى أنّ المستعمرين القدامى وخلفاءهم الجدد المتحكمين في النظام الدولي هم الذين صنعوا الانقسامات في الأصل، وهم الذين يفرضون استمرارها، سواء أكانت إثنية/ قومية أو إثنية/ دينية!
ولنخرج من الرؤى العامة للطرفين إلى الوقائع، وآخرها الانتخابات العراقية قبل أيام، وأحداث السودان وليبيا وتونس وسوريا ولبنان وما وراء وراء! لقد بدت أحداث العام 2011 باعتبارها خطاً فاصلاً حتى في العراق والجزائر. ثم تبين بسرعة وخلال عامٍ لا أكثر، أنها الموجة الثانية أي الأصالية. كل الغربيين وقفوا مع الحركات «الشعبية»، باعتبارها تخلُفُ العسكريين والأمنيين بإراداتٍ شعبية تظهر في الانتخابات. إنما عندما انتشرت الفوضى، وظهر المتطرفون على الحواشي وفي قلب المجتمعات والدول انقسم الدوليون بحسب مصالحهم العاجلة: الأميركيون (والأوروبيون أقل) ظلوا متحمسين لآيديولوجيا الانتخابات، والروس والصينيون عادوا فوقفوا مع الأنظمة القديمة التي كانت سائدة حتى العام 2010. وما خلا الأمر من تحليلٍ أو رأي ثالث مؤداه أنّ الحراكات «المدنية» لم تفشل، وإنما أفشلتها التدخلات العسكرية والأمنية من المحلي إلى الإقليمي والدولي، ونشرت في وجهها الميليشيات بحيث صار الخيار بين النظام القديم أو الميليشيات الفوضوية!
ولنصل إلى الموجة الثانية للتحركات الشعبية العربية 2018 - 2019 في العراق والجزائر والسودان ولبنان. لقد كان الهدف فيها جميعاً رغم الصَخَب العالي ليس التغيير الشعبوي الثوري، بل الوصول إلى الانتخابات الحرة المبكّرة إن أمكن. وهو الأمر الذي حدث في ثلاثة من تلك البلدان أو لا يزال يحدث، أما في السودان فإنّ الجيش عندما أدرك أن حكم البشير ومحازبيه الإسلاميين ما عاد ممكناً وسط إفلاس الدولة، وتعاظم الحركات المسلحة الانقسامية، فكانت النتيجة الأولية أنّ الانتخابات بالسودان تأجلت لسنواتٍ ثلاثٍ أو أربع، وأنّ الانقسامات العسكرية/ المدنية لا تزال ظاهرة؛ وهذا علاوة على تفاقم التحركات الجهوية التي بدأت ولن تنتهي عند شرق السودان.
فلننظر ماذا حدث في بلدان الانتخابات «الحرة»! حصلت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الجزائر وبقي الوضع على ما كان عليه من تحكم للجيش، وما بقي في الشارع من حراكٍ ضعيف يقوده الانقساميون الأمازيغ، والجزائريون بسوادهم الأعظم لا يؤيدونه بالطبع، فقد يمكن القول إنّ حراك الجزائريين الثاني انتهى إلى ما انتهى إليه الحراك الأول، مع أنه كان في نظر عددٍ من المراقبين الأكثف حضوراً وسلمية من عقودٍ وعقود!
ولنمضِ إلى العراق الذي ثار معظم شبانه في مناطق الكثرة الشيعية على الأقلّ. والمفروض أنه حقّق بدماء شبانه (أكثر من ستمائة قتيل على أيدي الميليشيات السرية والعلنية ومنها ميليشيا مقتدى الصدر وذلك حسب الادعاءات التي يطلقها خصومه!) ما لم يستطع الحراكيون الآخرون إحقاقه: حكومة جديدة، وانتخابات مبكرة. عملية التغيير في العراق شديدة التعقيد. فقد اشتبك الثائرون مع الميليشيات التابعة لإيران، لكنّ الذي أخمد حراكهم عملياً ليس عدم قدرة أو إرادة حكومة الكاظمي على حماية حشودهم فقط؛ بل وإصرار مقتدى الصدر على دفع أنصاره للاشتباك معهم، لماذا فعل ذلك مع أنهم ما كانوا ضدّه، رغم أنه جزءٌ من المنظومة الحاكمة منذ العام 2003؟! والطريف، أنه بعد يأس الشبان ومقتل أكثر قادتهم في الشارع أو في منازلهم وإعلان كثيرين عن عدم خوض الانتخابات، أعلن مقتدى الصدر أيضاً أنه سيعتزل الانتخابات، فانصرف الجميع وفي طليعتهم الكاظمي، بل وأنصار إيران إلى استرضائه وإعطائه الضمانات إلى أن تلطف ورجع واحزروا كيف عاد: قال لأنصاره المتذمرين إنهم متعودون على الطاعة، وهو يأمرهم بذلك الآن، وقال لهم إنهم عائدون لحكم العراق لأنّ رئيس الحكومة سيكون منهم (!). المهم أنّ الصدر حصل بالفعل على سبعين مقعداً ونيّف، بينما بقي خصومه المعلنون في ثلاثينيات المقاعد بعكس العام 2018. إنما الأطرف والأظرف، أن الحديث الآن عن تحالُفٍ له مع الحلبوسي الذي فاز بالأكثرية في المناطق السنية، وقد كان عام 2018 الأكثر ولاءً للمعسكر ذي التوجه الإيراني، وصار لذلك رئيساً لمجلس النواب. أما الرفيق الثالث في التحالف المفترض، فهو حزب البارزاني في كردستان، وقد كان حزبه في المنظومة بالطبع، وقد انخذل حزب رئيس الجمهورية في كردستان، رغم حماسه المنقطع النظير للانتخابات! لكن: أين الشبان الثوريون الذين ضحوا، ولهم اشترعت الانتخابات المبكرة؟ المتفائلون يعتبرون أنهم حصلوا على نحو عشرين مقعداً في البرلمان من ضمن أكثر من ثلاثمائة وثلاثين! ما هي النتيجة؟ بقي القديم على قِدَمه وبالديمقراطية الانتخابية المشهودة تحت أنظار المراقبين الغربيين، وبعد مدة لن تطول سنرى الصدر من جديد في طهران، ورحم الله الأرواح البريئة التي استشهدت لإيمانها بالتغيير السلمي في المجتمعات غير الانقسامية!
وعندما نتحدث عن لبنان، وستحصل الانتخابات فيه في مايو (أيار) المقبل 2022، فنحن لا نتنظر نتائج الانتخابات ليس لأنها واضحة فقط؛ بل لأنّ الانقسامات حصلت بالفعل. كل شباب لبنان وشاباته من أبناء وبنات الفئات الوسطى نزلوا للشارع في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 على وقع انهيار اقتصادي ومعيشي هائل لا يزال مستمراً ومتفاقماً. وقد أعلنوا يأسهم من المنظومة الحاكمة، وأرادوا تغييرها بالانتخابات المبكرة. لكنّ الحراك خمد بالتدريج في ظل انعزاليات وباء كورونا، وفي ظلّ تفجير مرفأ بيروت. معظم المسيحيين الآن وبسبب مسار التحقيق في جريمة تفجير المرفأ يعتقدون أن السياسيين المسلمين هم الذين تسببوا في التفجير وفي قتل أبنائهم وأقاربهم، وحجتهم في ذلك أنّ هؤلاء السياسيين يرفضون الخضوع للمحقق العدلي الذي بادر إلى اتهامهم قبل السؤال! وإلى ذلك، فإنّ التغييريين المسيحيين هؤلاء وبسبب طبيعة قانون الانتخاب، يتصارعون فيما بينهم على من هو الأكثر راديكالية في مسيحيته لكي يُقبل الناخبون على الاقتراع له. ومن وراء ذلك كلّه الحزبية المصمتة لدى الشيعة، والخمود المحبط والمنكسر لدى السنّة أكبر طوائف لبنان عدداً! كيف تكون نتيجة الانتخابات إن حصلت؟ الراجح أن يبقى الوضع على ما هو عليه لدى الشيعة، ويزداد التشرذم الانتخابي بين المسيحيين، ويزداد ويتفاقم بين السنّة لكثرة الطامحين لخلافة آل الحريري.
هل هي الطبيعة الانقسامية للمجتمعات؟ أم هو داء السلطة لدى النخب السياسية، أم هي التدخلات الخارجية، أم الأمور الثلاثة معاً؟!
وطن تفرق أهله فتقسما
ورجاله يتشاجرون على السما
والهر في أوطانهم يستأسد