بقلم : رضوان السيد
بعد أن كتبتُ مقالة قصيرة عن أستاذي الألماني جوزف فان أس المتوفى في عشرينيات الشهر الماضي بعنوان: «وفاة فان أس وانقضاء الاستشراق» وأرسلتُها للنشر، سيطر علي الرَوع، فقد اكتشفتُ أنّ العنوان ليس لي رغم كثرة كتاباتي عن الاستشراق، إذ سبق لي أن قرأتُ قبل قرابة العقدين مقالات مجموعة لأستاذنا سمير عطا الله عنوانها هكذا مرة واحدة: انقضاء الشرق (!)، كما قرأت كتيباً للأستاذ غسان تويني بالاشتراك مع مفكر فرنسي عنوانه (وهو يشير إلى العرب): قرنٌ للا شيء (!) يتكرر فيه كثيراً مفرد: الانقضاء. الاستشراق تخصص أكاديمي وإذا كان قد انقضى، فإنّ الاهتمام العالمي بالمشرق والعرب والإسلام لم ينقض رغم تغير العناوين والتسميات والمناهج. أما «الانقضاء» عند سمير عطا لله فهو مروِّعٌ بالفعل، لأنه إنذارٌ بنهاية عالم. عطا الله يتحدث عن انقضاء المشرق الكوزموبوليتي المتعدد والمنفتح والباعث على البهجة والازدهار الإنساني. وقد رأيت قبل أيام مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عطا الله قال فيها تقريباً عن لبنان ما سبق له قوله عن الشرق بأجمعه. وأنا نفسي شكوت في مقالة بصحيفة «الشرق الأوسط» من العجز عن استشراف الجديد وليس في لبنان فقط، بل وفي سوريا والعراق وليبيا وبلدان أخرى لا حاجة لتردادها أو تعدادها.
إنّ ظواهر الأسى واليأس العربي لا تبدو في مقالات الصحف اليومية وحسب، بل وفي الروايات والشعر وعروض الأكاديميين في الاقتصاد والعلوم الاجتماعية والسياسية. فهل هي أزماتٌ يشهد العالم كله مثائل لها، أم أنها بالفعل «حقبة» انقضت بمعالمها الإيجابية والسلبية أو أنه بالأحرى عصرٌ ضاع فيه ملايين البشر ومظاهر الحضارة - أو التمدن - التي بنوها وعمّروها؟!
عندما ينعى المفكرون والصحافيون لبنان يذكرون خراب معالم المدنية والحداثة فيه: المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف والمرفأ العالمي والمطار وشركة طيران الشرق الأوسط، والكهرباء والمياه، وعجز معظم ناسه عن الوصول إلى الدواء والغذاء والمحروقات، وسيطرة هَمّ الهجرة على كل الشبان. وهم ينسبون ذلك كلّه أو هذا الفقدان المروِّع للطبقة السياسية السائدة التي لا تتزحزح ولا تتبدل ولا يستقيل أحدٌ منها توبة أو نواتج أزمة ضمير. وما نقرؤه ونشاهده عن لبنان وفيه، نقرؤه ونشاهده عن ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولا أدري أين وأين أيضاً! وميزة لبنان - وللبنان دائماً ميزات في نظر اللبنانيين وحدهم - أنه ما نشبت فيه حتى الآن نزاعات أو فوضى شاملة. لكن آخرين لا يعتبرون ذلك ميزة، بل يعلِّلون الخمود بأنّ طرفاً واحداً هو الذي يملك السلاح، وهو يستعمله بطرائق انتقائية، أما في البلدان العربية الأخرى فإنّ الجميع يمتلكون السلاح ويستعملونه دون توقف!
لكن وأعود إلى التساؤل ذاته: هل هي أزماتٌ سياسية كبرى ناجمة عن اختلالات عميقة في إدارة الشأن العام، أم أنها صارت بالفعل تأزماً حضارياً شاملاً؟
لقد كنتُ أميل - وليس على سبيل التفاؤل فقط - إلى أنها أزمات سياسية كبرى وهائلة في البلدان المعنية ولا علاقة لها بالوضع الحضاري العربي، بدليل حضور نهضات مشهودة في مواطن عربية بارزة مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر والمغرب. وبدليل أنه حتى في حالات اللاجئين والمهاجرين البؤساء وقد صاروا بالملايين، سرعان ما ينتظم هؤلاء في مجتمعاتهم الجديدة، بل ويزدهرون فيها دونما ظهور أمائر على الافتقار للحسّ المدني أو الحضاري.
إنما لماذا ظهرت تلك التأزمات الكبرى - التي يبدو أنه لا نهاية لها - في بلدان الاضطراب المعنية؟ هل لأن العسكريين حكموها فكسّروا المؤسسات، وخلخلوا التماسك الاجتماعي المديني؟ لكنّ مصر حكمها العسكريون وما حدث اختلال، كما أنّ لبنان لم يسيطر فيه العسكريون والأمنيون.
كان الأستاذ نزيه الأيوبي قد أصدر عام 1994 كتاباً رجعتُ إليه مراراً عنوانه: تضخيم الدولة العربية، درس فيه الانسدادات في الأنظمة السياسية العربية، وتوقّع تغييراً أو تفجرات. وما حدث التغيير السلمي المنشود من خلال حركات التغيير البادئة عام 2011، ولذلك حدثت التفجرات والانهيارات في البلدان التي استعصى فيها التغيير ومنها لبنان. ففي عام 2011 بالذات أسقط حزب الله (ومعه حليفه الجنرال عون) الحكومة المنتخبة، وما حدثت انتخاباتٌ حقيقية مُذ ذاك، ولذلك صارت الطبقة السياسية اللبنانية خالدة. وما حدث في لبنان أخيراً يحدث في سوريا وليبيا مثله منذ عقودٍ وعقود. أمّا في العراق فسادت فئاتٌ بعد إسقاط حكم صدام حسين، وعندما حصلت انتخاباتٌ حرة نسْبياً أخيراً، ما اعترف بنتائجها السائدون. فحتى الثورة الشعبية في العراق ولبنان ما استطاعت إحداث التغيير. ولا يبدو أنّ الانتخابات النيابية والرئاسية في ليبيا ستتمكن أخيراً من إحداث التغيير بالسلم، وكذلك في لبنان!
والاستنتاج الذي يمكن أن يتوصل إليه المستطلع أنّ العلّة بالفعل في الطبقة السياسية السائدة، التي لا تستطيع الاستمرار في الغلبة والسواد إلا بالتدخل الخارجي، وهو أظهر ما يكون في سوريا، التي تعاون مع النظام الخالد في إحباط ثورتها الهائلة الإيرانيون وميليشياتهم والروس والدواعش، وما يزالون. وما يقال عن سوريا يقال عن العراق وليبيا.
وقد كنا نقول عن لبنان إنّ المافيا والميليشيا تحالفتا على شعبه ونظامه. والمافيا هم السياسيون ورجال الأعمال، أما الميليشيا فتتمثل في الحزب المسلح من إيران، الذي يتبادل المصالح مع الطبقة الثنائية المتضامنة والمتكافلة من سياسيين ورجال أعمال.
يحتاج الأمر إلى تغيير وإصلاحٍ كبيرين. وهو الذي يحدث في المملكة ومصر والإمارات. فهناك حكمة في الإدارة. وهناك سيرٌ حثيثٌ باتجاه التنمية المستدامة. أما بلدان الاضطراب فإنّ المسيطرين يأبون التغيير لصالح الإنسان ويستعينون على الخلود في مواقعهم بالتدخل العسكري الخارجي.
إنّ الشرق الذي انقضى هو الشرق الاستعماري الذي ترك مفاعيل إيجابية على بلدان وحكومات الاستقلال الأولى حتى في ليبيا والعراق. وهي حقبة تستحق التذكر والأسى عليها مقارنة بالذي حدث ويحدث منذ عقود وعقود. فالأزمة أزمة حكمٍ وإدارة وتدخلات أجنبية وليست أزمة حضارية. هل في ذلك عزاء؟ بالطبع لا، لأنّ التغيير لا بد أن يحدث كما يجري في البلدان العربية المنطلقة، لأنّ حوالي المائة مليون عربي مأزوم لا يستطيعون الهجرة جميعاً بالطبع، وسيظلون يحاولون التغيير بالسلم، بدلاً من السلاح الذي استقوى به خصومهم وحكامهم دائماً عليهم: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».