سمير عطا الله
ما أن حقق المجاهدون العرب الأصلاء العقلاء استقلال بلدانهم، وبدأوا عملية البناء في ظل قواعد أخلاقية قائمة على مفاهيم العدالة والوحدة والقانون، حتى انقض العسكريون على أوصال السلطة، وحوّلوا رغباتهم إلى محاكم، والجامعات إلى سجون، والقيم إلى جزم.
وفي ظل هذه العدميات ضاعت الحقائق وضاعت البلدان واهترأ الاستقلال، وتحولت السيادة إلى صفقة متنقلة وتسويات بقائية، وأصبح النظام أهم من الأرض، والتسلط أهم من العدالة، والحزب أهم من الإنسان، والدبابة أهم من الفكر، والزعيم الأوحد أهم من وحدة الأمة.
في هذا الضباب والغبار والدماء والزعيق والصراخ وتسليط الجهل على العقل، ضاعت الحقائق وضاع الاستقرار وضاع مستقبل شباب الأمة ما بين مهجرين ومهاجرين ومجندين وسجناء ومتسكعين. وساهم في لعنة القتوم هذه، إعلام مشابه، وتنظير مشابه، وسلوك استبدادي إلغائي عقيم مشابه.
حاول أن تقرأ مذكرات عمرو موسى، لكي تعرف ما الذي أودى بنا إلى هنا. منذ 50 عاماً وأنا أكتب ضد جنوبيي السودان. وضد انفصالهم. وضد كل انفصال في العالم. وضد القوى الخارجية التي تشجع تفكك الناس وإضعاف الشعوب. أليس مذهلاً أن يخبرنا عمرو موسى، بالحد الأدنى مما يعرفه، أن جون قرنق كان ضد انفصال الجنوب، وكان يقول له دائماً: لا أريد أن أكون رئيساً على دولة هزيلة فقيرة في الجنوب، بل رئيساً للسودان الموحد. إذن، من الذي ارتضى انفصال الجنوب؟ يلمِّح عمرو موسى، بقدر ما يستطيع، إلى «البعض» في الشمال. لم تكن هناك إرادة كافية لإبقاء الجنوب. وكان السائد ثقافة التنكيل بالأهل في كل الولايات، خصوصاً في دارفور.
يضيء عمرو موسى على طريقة التفكير العربي خلال العقد الذي أمضاه أميناً عاماً للجامعة. على المناورات الصغيرة التي كانت تدور في أوقات البحث في القرارات المصيرية. يروي كيف في قمة المبادرة العربية (2001) في بيروت، ادعى مضيفها الرئيس إميل لحود، انقطاع الإرسال لكي يحول دون إذاعة رسالة ياسر عرفات، صاحب القضية، الذي كان على خلاف مع سوريا.
ما هو الأفضل، أن تعرف، أو أن لا تعرف؟ أنا أفضّل ألا أعرف. فكيف سأنظر إلى جهلي عندما يقال لي إن جون قرنق كان يريد السودان واحداً أو موحداً. أما أن القمر الصناعي قد تخرب فوق لبنان لحظة خطاب ياسر عرفات فواقعة لا تنسى ومصادفة قومية جليلة من مصادفات العمل العربي الموحد والنضال في سبيل القضية المركزية.