جمال خاشقجي
لو كتبت مقالتي هذه للتعليق على اتفاق إيران والخمسة + 1، ولمّا تهب «عاصفة الحزم»، لكتبت مقالة محبطة تعبّر عن رأي سعودي محبط، ربما تكون أيضاً استسلامية تتدثر بواقعية الأمر الواقع، أو غاضبة ناقمة من ضعفنا نتيجة لخبطة الأولويات فانصرفنا عن التهديدات الحقيقية إلى خلافات تافهة.
ولكنني أكتبها الآن بينما أستمع للعميد أحمد عسيري الناطق باسم القوات المسلحة السعودية التي تقود تحالف «عاصفة الحزم» الهادفة إلى تقليم أظافر إيران في المنطقة، وهو يقول بثقة: «إذا كان هناك مستشارون إيرانيون أو من «حزب الله» مع الحوثيين فسيلقون المصير نفسه». إذاً لا مكان في اليمن الآن - وبالتالي غيرِها من بلاد العرب لاحقاً - لمستشارين إيرانيين أو من يتبعونها من ميليشيا يقتلون ويخيفون ويفرضون رؤيتهم الطائفية على مستقبل الأمة العربية، وبالتالي لم أعد أشعر باهتمام شديد إن توصل الأميركيون والأوربيون إلى اتفاق مع إيران يعطيها الحق بالاستمرار بمشروعها النووي «السلمي» ويرفع عنها العقوبات كلياً أو جزئياً أم لم يتفقوا.
فالذي يشغلني بصفتي مواطناً سعودياً هو هذا التمدد الإيراني، الذي يهدد أمننا الإقليمي والمحلي، ويغيّر هويتنا بالقوة والتخويف، ويصادم تطلعات شعوب المنطقة الى السلام والحرية والحق في الاختيار. لقد فشلت إيران في كل المبادئ التي أعلنتها ثورتها الإسلامية بأنها مع المستضعفين والوحدة الإسلامية والحرية. في سورية وقفوا مع ديكتاتور، وفي العراق اصطفوا طائفياً، وفي اليمن كذلك وخططوا لانقلاب يفرض فصيلاً بالقوة على كل اختيارات الشعب. المؤلم أنهم بدوا، وطوال عقد كامل، ماضين من نجاح إلى آخر، والعالم يعجب بالناجحين والمنتصرين حتى لو لم يحبهم، كهذا بدت تعليقات بعض المحللين السياسيين الأميركيين وهم يدعون الى صفحة جديدة مع إيران. إنها القوة الصاعدة، التي تقول وتفعل، ويمكن الاعتماد عليها في الحرب على «داعش» والإرهاب، وإعادة الاستقرار إلى المنطقة. لا يزال في أميركا من يرى المنطقة بمنظارين فقط: محطة النفط، وأمن إسرائيل، فكان هذان هما محرك التفاوض مع الإيرانيين في مفاوضات جنيف والآن لوزان، يرون في رفع العقوبات عن إيران ما يحولها إلى شريك اقتصادي، تفرك الشركات الأميركية أيديها وهي تقرأ دراسات الفرص الاقتصادية المقبلة بعد خروج هذا الجنّي الاقتصادي الإيراني من قمقم العقوبات، أما إسرائيل فإن الشروط التي ستضعها الولايات المتحدة على المشروع النووي الإيراني كافية لجعله سلمياً، مع بقاء خيار العقاب العسكري لإسرائيل والولايات المتحدة لو ثبت لهما أن إيران تخاتلهما وتمضي في مشروع سري لتصنيع قنبلة نووية. التطوير بات مسألة من الماضي، إذ يجمع الخبراء أن ايران تمتلك اليوم المعرفة والتقنية الكافية. أما العرب وأهل الخليج، يسأل الأميركي، فأين سيذهبون؟ لا خيار لديهم غير قبول الأمر الواقع والاستمرار في تصدير مزيد من النفط وشراء مزيد من الأسلحة!
لقد تجاهل المزاج الأميركي كل أسباب القلق السعودي من التمدد الإيراني. كانوا يتعاملون معنا بمنطق «هذه مشكلاتكم الطائفية القديمة التي لم تستطيعوا حسمها خلال ألف عام، فلا تشغلونا بها». لم يلتفتوا بشكل جاد إلى كل الانتهاكات الإيرانية لمبادئ القانون الدولي وقواعد حسن الجوار، لم يهمهم تغلغل الإيرانيين في الأجهزة الأمنية العراقية حتى أصبحت تدار من طهران مباشرة، ولا دخول آلاف الإيرانيين وميليشيات طائفية يجلبونها حتى من أفغانستان إلى سورية لقتل سوريين يريدون الحرية والخلاص من الديكتاتور، لم يتحركوا لمنع «حزب الله» من أن يرسل رجاله وأسلحته إلى سورية، وهو وفق أي تعريف قانوني لا يمكن إلا أن يكون قوة عسكرية مارقة خارجة على سلطة الدولة اللبنانية. لم يوقفوا طائرة إيرانية واحدة يعلمون أنها محملة بأحدث أنواع الأسلحة وهي تتوجه إلى سورية، حيث منطقة صراع أعلنوا غير مرة منفردين أو من خلال الأمم المتحدة بضرورة حظر الأسلحة عنها، وكذلك إلى اليمن، حيث السفن تنقل الأسلحة، وطائرات إلى صنعاء تحمل مستشارين ومدربين، وربما مزيداً من المتعصبين الشيعة الذين احترفوا القتل الطائفي في العراق وسورية. تعلم أميركا أن كل هذا يهدد الأمن القومي لحليفتها السعودية، ولكنها ببساطة اكتفت بسحب جنودها من قاعدة العند القريبة من عدن بعدما بدا أن الحوثيين على وشك أن يطبقوا عليها، ومضوا بعيداً بلا مبالاة عجيبة.
قبل نحو العامين، كنت في إسطنبول مشاركاً في إحدى دورات المنتدى الاقتصادي العالمي، في حلقة حوار عن التهديدات الأمنية في المنطقة. قلت، إن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية سقوط عشرات الآلاف في سورية، بقدر لا يقل عن روسيا والصين اللتين صوتتا بالفيتو أكثر من مرة لمنع التدخل هناك، فاميركا أيضاً تمنع السعودية وتركيا وقطر من توفير أسلحة نوعية للمعارضة السورية، أهمها الصواريخ الحرارية التي كان يمكن أن تحد من قدرة الطيران السوري الذي استمرأ، بعدما أمن العقاب، قصف المدنيين في المناطق المحررة لأهداف عقابية وليست عسكرية. بدا كلامي مزعجاً لباحث أميركي مشارك متخصص في الشؤون الدفاعية وصديق مفترض للمملكة، فقال بحدة «أنتم لديكم طائرات إف 16 وسلاحكم الجوي أقوى بمراحل من القوات الجوية السورية، لمَ لا تأخذون زمام المبادرة؟».
سكتُّ على مضض، ذلك أنني كنت معتقداً أننا لا نستطيع فعل ذلك من دون غطاء دولي، وتحديداً أميركي، بل حصلت على معلومات وقتها تؤكد منع الأميركيين السعودية وقطر من إرسال شحنة صواريخ «مان باد» الحرارية للسوريين كان يمكن أن تغيّر موازين المعركة وتنقذ أرواحاً كثيرة. من الواضح أن هذا العجز هو خبر من ماض سحيق، فلقد دفعتنا «عاصفة الحزم»، وخلال 10 أيام فقط ومعنا كل المنطقة، إلى مستقبل مختلف متقدم بأعوام عدة.
بالتالي لم يعد مهماً أوقّعوا أم لم يوقعوا، سالموا إيران أم حاربوها، المهم أن المملكة استعادت الزمام لنفسها وللمنطقة، فبدت ماضية في مشروعين مهمين: الأول سحب البساط بالكامل من تحت أرجل إيران في حيزنا العربي، والثاني لا يقل أهمية، إذ أكد لي مصدر مطلع أن سياسة المملكة حيال الطاقة النووية ستختلف تماماً فور توقيع أي عقد مع إيران، فكل ما ستحصل عليه من الدول الكبرى من منشآت وتقنيات والمقدار المسموح به لتخصيب اليورانيوم وعدد أجهزة الطرد المركزي ستعتبره المملكة حقاً لها أيضاً تسعى من خلاله لتطوير برنامجها النووي.
إنه توازن القوى الذي يضمن السلام من حماقات مغامر يريد إعادة صوغ التاريخ والجغرافيا.