التقيت في اسطنبول أصدقاء مقربين من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، صارحتهم بشكوكي في أن ثمة مبالغة في تصوير جماعة فتح الله غولن على أنهم مخطط رئيس للانقلاب الفاشل، وأنهم يستغلون فرصة الانقلاب لتصفية هذه الجماعة المنافسة، لكني وجدتهم مقتنعين بذلك في شكل ساحق. للدلالة، قال لي أحدهم: لو لم يكن غولن خلف الانقلاب لما خرج حزب «الشعب» والكماليون ضده وتحالفوا معنا، لو كان الجيش وحده لتحالفوا معه، لقد فعلوها من قبل غير مرة، لكنهم والكماليين يرفضون انقلاب «التنظيم الموازي» مثلما نرفضه، لأنه تنظيم شمولي لو نجح فسيلغي الجميع ويحكم منفرداً.
زعيم حزب «الشعب» كمال كيلجدار أوغلو، وهو أيضاً زعيم للمعارضة التركية، انحاز إلى الحكومة في مسألة غولن، من الواضح أنه أيضاً مقتنع بمسؤوليته وتخطيطه للانقلاب، فأعلن تأييده حتى طلبها تسليم الولايات المتحدة «زعيم الإرهابيين في بدلة عسكرية»، هكذا بات ينادى هو والعسكر المتورطون معه في الإعلام التركي، لكنه أيضاً قلق من حملة الاعتقالات الواسعة التي طاولت أعضاء التنظيم، ومن حولهم، وحذّر من «إلقاء الأبرياء في النار مع المذنبين»، ولم يكن وحده في ذلك، وإنما معه كثر من كوادر «العدالة والتنمية»، الذين يشاركونه القلق، لكنهم يعبرون عنه بهدوء تضامناً مع حزبهم.
إنهم في حال صدمة، ففي الساعات الأولى من مساء 15 تموز (يوليو)، وقبل تأكدهم من فشل الانقلاب وتلقّيهم التوجيهات بالنزول إلى الشارع، كانوا يقلبون اختياراتهم السيئة، بين انتظار من سيطرق عليهم الباب صباح اليوم التالي ليصطحبهم إلى المعتقل، أو الاختباء والاستعداد لمواجهة وحرب أهلية تفكك تركيا، جميعهم قالوا: إن انقلاب غولن، لو نجح، لكان أسوأ من انقلاب 1980، الذي اعتقل فيه مئات الآلاف ولا يزال عشرات الآلاف منهم في عداد المفقودين. «بالتأكيد لم نكن سنسمح أو نقبل بذلك، بالفعل بدأنا في التشاور في خطة للمقاومة، والنزول تحت الأرض، لكن مشكلتنا أننا لا نمتلك تنظيماً سرياً مثل التنظيم الموازي، إذ تعودنا على العمل الحزبي المعلن منذ أيام حزب الرفاه وأربكان (رئيس الوزراء الأسبق)، فشعرنا أكثر بالتهديد، لكن قبل أن نغرق في تلك الأفكار وجدنا أنفسنا في الشارع مع الشعب نقاوم الانقلاب، لم ننتظر حتى توجيهات الرئيس وقيادات الحزب، فتغير مجرى الأحداث تماماً في تلك الليلة»، قال ذلك مدير قناة «تي آر تي» العربية السابق توران كشلكجي، وهو يشرح لي اللحظات الصعبة التي مر بها ليلتها.
بالتالي، فهم يشعرون بعدالة ما تفعله الحكومة وهي تفكك التنظيم الموازي من أجل حماية الديموقراطية والدولة التركية، لكنهم في الوقت نفسه قلقون من تداعيات ذلك، فما أعلن حتى الآن ما هو إلا بعض من كثير أتى، فعملية التصفية لم تبدأ بعد في اسطنبول، كما قال أحدهم، والجميع يترقب بحذر، فكان ذلك موضوع حديثهم خلال أكثر من لقاء حضرته معهم.
على هامش عشاء دعاني إليه مدير مستشار هيئة دعم الاستثمار التركية مصطفى جوكشو المقيم في الرياض، مع مجموعة من السعوديين المستثمرين في شتى المشاريع العقارية والسياحية هناك، وبعضهم بات مقيماً في اسطنبول، وهم متحمسون بالقدر نفسه للحكومة التركية التي سهلت لهم أعمالهم النامية هناك، تنحيت جانباً مع أستاذ بجامعة تركية قال، وقد طلب عدم ذكر اسمه: «لقد أحدث التنظيم الموازي شرخاً حتى في الأسرة التركية الواحدة، زوجتي تنتمي إلى التنظيم هي ووالدها، علاقتنا الآن غير جيدة، بعض أقاربها أوقفوا أو صرفوا من أعمالهم، إنها لا تريد أن تصدق بتورط شيخهم وتنظيمهم في المؤامرة، تقول: إنها كذبة كبيرة، على رغم كل الحقائق التي تتكشف، هؤلاء غسلت أدمغتهم، لا أعرف كيف ستخرج عائلتنا من هذه الأزمة؟»،
لكنهم يؤيدون حكومتهم في ما تفعل، يعتقدون أنها باتت قوية بما يكفي لفعل ما كان يجب أن تفعله منذ زمن، ويستعرضون قصص «الاختراق» التي نفذتها الجماعة في الجيش والمؤسسات الأمنية والحكومية كافة، والتي تفسر صرف موظفين، ليس من المؤسسات الأمنية أو التعليمية فحسب، بل حتى بعيداً في الخطوط الجوية التركية، أحدهم كاد يبكي وهو يتحدث عن الشكوك المحيطة بمسؤول كبير يحترمه في محافظة اسطنبول، والذي تحيط به الإشاعات، والتي لا تخلو منها مجالس الأتراك. يكفي أن تكون مسؤولاً ويصادف أن كنت في الولايات المتحدة يوم الانقلاب الفاشل، وكنت هناك أيضاً في محاولة 2013 (يرون أن مؤامرة التنصت التي قصمت العلاقة بين الجماعة والحزب كانت تمهيداً لمحاولة انقلابية) للاشتباه بك.
مشكلة «الغولانيين» أنهم ليسوا مثل أتباع «داعش» في مجتمعنا، يجهرون بالخروج على الحكومة وتكفير المجتمع ويستخدمون العنف، لكنهم متدينون عاديون، بل إنه «تدين على الخفيف» كما وصفهم أحدهم ضاحكاً، بالتالي فمن الصعب التعرف إليه إلا أن تجد اسم أحدهم في شبكات التواصل المغلقة، والتي باتت في حوزة المخابرات التركية ومصدر كنزها الهائل لمعرفة المتورطين. اطلعت على ترجمة للتواصل بين المنتمين إلى الجماعة في الجيش، ولاحظت أن ضباط الجيش كانوا يستخدمون عبارات إسلامية وهم يتبادلون توجيهات الانقلاب الفاشل، يدعون الله بالنصر والتوفيق، عبارات ليست «كمالية»، كما قال لي من أطلعني على الترجمة، ثم تحدث باستفاضة عن قدرتهم على اختراق مؤسسة الجيش منذ عقود عدة، مؤكداً أن بعض الضباط، الذين يبدو عليهم في تصرفاتهم وحياتهم الخاصة الكمالية والليبرالية، ما هم إلا أعضاء مخلصون للجماعة، ثم عرض مجموعة من الأشرطة لغولن وهو يتحدث عن فنون «التغلغل»، ويجيز لأعضائه عدم الصلاة والحجاب للوصول إلى الهدف! أغرب ما رأيته مجلة للجماعة اسمها Sizinti وتعني «تغلغل».
قصة أشبه بمؤامرات التنظيمات السرية الماسونية، ونقاط تحتاج إلى عقل تركي يفهم كيف تتوافق مؤسسة الجيش الكمالية، التي ترى نفسها حامية للعلمانية، مع تنظيم يرفض الكمالية، ويرى في رمزها (أتاتورك) المسيح الدجال، الذي سيواجه المهدي (الذي هو غولن)، لكنه في الوقت نفسه يرفض الإسلام السياسي (وهنا يختلف غولن مع أردوغان وحزبه)، ويرى تنظيمه أنه الإسلام المعتدل، الذي يحتاج إليه الغرب لكي يتعايش مع الإسلام، ربما أفضل تبسيط لشرح هذه الصورة المعقدة، هو تشبيه أعضاء تنظيم غولن بجمهور الدعاة المصريين الجدد، أمثال عمرو خالد وخالد الجندي، اللذين نجحا في اختراق الطبقات المصرية الثرية والمتعلمة، مع خطاب مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة الكاره للإسلام السياسي، لكن مع تنظيم تراتبي محكم كـ «الإخوان المسلمين»، في خليط بين «الطريقة» الصوفية والتنظيم الحديث، وتوظيف متقن لورش تطوير الذات وعلومه التي راجت أخيراً.
أحد مسؤولي «العدالة والتنمية» يخشى من دفع تنظيم غولن خارج المؤسسات الحكومية إلى قطاع الأعمال، إذ يتمتع هناك بخبرة ومال وفير، بالغ البعض بتقدير ما تحت يد الجماعة بأكثر من مئة بليون دولار. هناك قلق أيضاً من تغاضي الحكومة عن تنظيمات أخرى «صوفية» ومغلقة، لكنها الآن مؤيدة للدولة ولها حضور في جهاز الشرطة. الحل - كما يراه المحلل السياسي القريب من «العدالة والتنمية» محمد زاهد غول - «مزيد من الديموقراطية، بعد إحكام سيطرة الدولة وليس الحزب على النظام وتفكيك كل التنظيمات السرية».
قيادي سوري في «الائتلاف»، وهم من أكثر من تنفّس الصعداء بعد فشل الانقلاب، ختم الحديث بقوله: «إنني متفائل، فالدولة التركية التي استطاعت استيعاب ثلاثة ملايين لاجئ سوري، اندمج كثر منهم في الاقتصاد المحلي، وباتوا يدرسون ويتطببون مجاناً في مدارس الدولة ومستشفياتها، قادرة على استيعاب بضع مئة ألف تركي مغضوب عليهم الآن، إنها مرحلة صعبة وستمر».
لم يعارضه أحد، ومضينا نستمتع بآخر كوب شاي تركي، لعله كان العاشر في تلك الليلة.