كلما طالت الأزمات تعقدت أكثر، وتداخلت المواقف، وتبدلت التحالفات، وزادت الشكوك بين الفرقاء، وازدادت النيات غموضاً وخفية. هذا ما يحصل في اليمن وسورية اليوم.
الآن، تقوم تركيا بعملية عسكرية في الشمال السوري، تدعم «الجيش السوري الحر» ضد «داعش». حتى الآن الصورة واضحة، ولكن الأكراد أكثر من احتج وهدد وتوعد الأتراك، وتحديداً «قوات الحماية الكردية»، فنددوا بها، وأيدهم في ذلك إخوانهم الأكراد الأتراك الممثلون في البرلمان بأنقرة، ولكن إخوانهم أكراد العراق سكتوا عن العملية في تأييد ضمني لها، إذ كان زعيمهم في العاصمة التركية قبلها بيوم، وليس سراً أن أكراد العراق غير متحمسين لأكراد تركيا وحزبهم الرئيس «العمال»، الذي يعد إرهابياً هناك، ولكن كل المحللين اعتقدوا أن هبّة الأكراد السوريين وتحقيقهم انتصارات عسكرية وتنمّرهم على جيرانهم العرب بغرب الفرات، وبدعم من الولايات المتحدة، ما هي إلا خطة، إما لتقسيم سورية وإما نواة لكردستان الكبرى، التي تمتد فوق أربع دول، هي إيران والعراق وتركيا وسورية، ولكن مرة أخرى كرد العراق غير متحمسين لمشاريع كرد سورية ومعادون لكرد تركيا، ويخافون من إيران، فلا يدعمون كردها.
في 15 آب (أغسطس) الماضي، أعلن الأتراك أنهم توصلوا إلى اتفاق مع الأميركيين، يقضي بانسحاب الأكراد السوريين من غرب الفرات، ولكن واشنطن تجاهلت هذا الإعلان، ففي تلك الفترة كان الأكراد يحققون انتصارات ضد «داعش» في مدينة منبج الواقعة غرب الفرات. فجأة اختصم الأكراد مع النظام السوري وميليشياته، فقام طيرانه بقصفهم، على رغم أنه استخدمهم يوماً ما ضد «الجيش الحر» والثوار السوريين، وقوامهم الغالبية العربية السنية التي تريد تغيير النظام وإقامة سورية جديدة أفضل تمثيلاً لواقعها الحقيقي. بدا ذلك كأنه تحالف أقليات، علويون يتحالفون مع أكراد، ففتحوا لهم مخازن السلاح، فتمدد الأكراد ومعهم «داعش» من دون اتفاق بينهم، على حساب الثوار، وأخرجوهم من كامل الجزيرة السورية، بل تمدد «داعش» حتى بلغ مشارف حلب.
لعل الأكراد اعتقدوا أن الساعة ساعتهم، فضربوا باتفاقهم مع النظام عرض الحائط، فبطشوا به في مدينة الحسكة، وتدخل الروس، الذين دعوا الفريقين إلى اجتماع في قاعدتهم الجوية بالساحل السوري، وفرض شروط سلام مهينة للنظام لوقف إطلاق النار. الأميركيون أيضاً تدخلوا وحذروا النظام من الإغارة ثانية على الحسكة ومواقع الأكراد، وبذلك فرضوا ما يشبه حظراً جوياً يتنعم به الأكراد ومن تحالف معهم من العشائر العربية، وبالتالي المدنيين المحتجزين وسط هذه الصراعات. إنهم الأميركيون أنفسهم الذين اعتذروا غير مرة عن إقامة منطقة آمنة أو حظر طيران يحمي المدنيين في المدن السورية الكبرى، الذين سقط منهم مئات آلاف القتلى جراء غارات النظام بالبراميل المتفجرة والنابالم وحتى الكيماوي في انتهاك فاضح لقوانين الحرب، قائلين: إن حظر الطيران مسألة معقدة، ولا يمكن أن تكون من دون توافق أممي! ما أغرى الروس بالمشاركة لاحقاً بكذا غارات مقابل هكذا تخاذل أميركي، ولكن واشنطن سارعت بإعلان الحسكة منطقة آمنة من القصف الجوي في خمس دقائق، عندما استُهدف حلفاؤها الأكراد! صحيح أن الأميركيين برروا ذلك بوجود عناصر من قواتهم الخاصة مع الأخيرين، ولكن الجميع استفاد من ذلك الحظر، بما في ذلك الأطفال الأبرياء في الحسكة، وهو ما لم يتنعم به الطفل عمران الذي أيقظت صورته الشهيرة في سيارة الإسعاف بحلب ضمير العالم وإعلامه يومين أو ثلاثة، ثم نسيه بسرعة.
كان يمكن لهذا التداخل بين الأطراف أن يتعقد أكثر لو استمر الوضع السابق ذكره، ولكن تركيا أطلقت فجر الأربعاء الماضي عملية «درع الفرات»، فتحلحلت بعض العقد، وتمايزت الصفوف. الأميركيون كانوا أول من عدّلوا في موقفهم، فتذكروا اتفاق سحب الأكراد إلى غرب الفرات، ليعلن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في مؤتمره الصحافي - خلال زيارته أنقرة، المقررة مسبقاً لترميم العلاقة التي تعرضت لشرخ كبير بسبب الانقلاب الفاشل والشكوك التركية حيال دور أميركي فيه، ورئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بجواره - تأييده العملية، وزاد على ذلك مطالبة حلفائه الأكراد بالانسحاب إلى غرب الفرات، وإلا فسيفقدون دعم واشنطن. الروس عبروا عن خشيتهم على المدنيين! موقف متناقض مع ما يفعلونه يومياً في إدلب وحلب، ولكن المستفاد منه أنهم لم يعارضوا العملية. يبدو واضحاً أن ثمة اتفاقاً تركياً روسياً مسبقاً.
عملية «درع الفرات» يمكن أن تتمدد الآن لتشمل كامل المنطقة بين ضفة الفرات الغربية إلى الجيب الكردي، عفرين في شمال حلب، لتكون منطقة عازلة يديرها السوريون وبحماية تركية، وبرضا الأطراف المتعددة «المتناقضة» النشطة في سورية، لتكون مفتاح حل للأزمة، هذا إذا لم تتغير النيات وتتبدل المواقف، فيسعى الروس، أو حتى الأميركيون لجعلها مستنقعاً تتورط فيه تركيا، لذلك ستتحرك أنقرة بحذر، فلا أحد يثق بأحد.
هذه الحال السورية المعقدة بات لها مثيل في اليمن، فرئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي يعين وزراء ومحافظين لا يطيق بعضهم بعضاً. تدعم السعودية اجتماعات لعلماء وفقهاء اليمن، فيخرجون بميثاق يوحد صفهم ويجمع كلمتهم للتوافق على مستقبل بلادهم، بخاصة أن الدين والطائفية باتا عامل تفريق يضاف إلى السياسة في يمنهم، تبارك الحكومة الشرعية الاجتماع والميثاق، ويعلن في احتفال كبير بالرياض برعاية وزير الشؤون الإسلامية د. صالح آل الشيخ، فيخرج وزير الدولة هاني بن بريك، الذي بات أقوى زعيم متنفذ في عدن، له رجاله ومسلحوه خارج إطار الدولة، فيهاجم اجتماع الرياض ويتهم الموقعين، من خلال حسابه الرسمي في «تويتر»، بأنهم «دعاة إرهاب»، منهم من أفتى «باللحوق بالقاعدة وأفتى بالعمليات الانتحارية وحارب علماء السنة»، ثم يتساءل في تغريدة لاحقة بوقاحة: «من حقنا أن نعرف من الذي رفع لمعالي وزير الأوقاف السعودي (الصحيح أنه وزير الشؤون الإسلامية) أن هؤلاء علماء اليمن، ومنهم حزبيون يصنف حزبهم في السعودية والإمارات جماعة إرهابية»؟! وتمضي تغريداته مثل ما مضت تجاوزاته على النظام العام في عدن من دون أن يحاسبه أحد.
ومثلها تصريحات غريبة تنشر في صحيفة تطبع في عدن لوزير يتمنى استمرار الحرب في الشمال «حتى نستطيع ترتيب أوضاعنا في الجنوب»! فترد عليها صحيفة إلكترونية بأن التصريحات مفبركة، ولكن لا يتحرك أحد لمحاسبة الصحيفة! التلاسن وتبادل الاتهامات والتشكيك طاول الجميع في صف المقاومة، لا يعيّن أحد في منصب إلا وتثور الأقاويل لرفض هذه الدولة وموافقة تلك الدولة. يزيد الطين بلة كثرة التعيينات للمحافظين ووكلاء الوزراء والسفارات، وكأنها عملية محاصصة وإرضاء شتى الأطراف والأحزاب والدول، بينما بالكاد تستطيع الدولة «المغتربة» أن تغطي موازنة ما هو قائم حالياً، ناهيك بالحاجة الماسة إلى دعم المقاومين ومعالجة الجرحى ورعاية أسرهم.
كنت على مأدبة غداء مع كبار رجال الدولة اليمنية، أشار مسؤول كبير إلى الشيخ سلطان العرادة محافظ مأرب وقائد مقاومتها وقال: «لولا الله ثم هذا الرجل لما استطاع ثلثا المحافظات اليمنية الاستمرار في المقاومة»، وروى لي كيف تقاسم مع بقية الجبهات 23 بليون ريال يمني وبليوني دولار، كانت في فرع البنك المركزي بمأرب ونجت من أيدي الانقلاب والحوثيين، ثم قال: «لولا الإصلاح (مشيراً إلى التجمع اليمني للإصلاح، الذي بات محل اتهام دائم) لما كانت هناك مقاومة في تعز وإب، وذمار، والبيضاء والحديدة»!
سألته: لمَ لا تقول ذلك للإعلام كي تتوقف عملية خلخلة الصف التي تشكو منها؟ ابتسم وقال: الذي يهمني أن يعرفوا هذه الحقيقة، وسكت.
فمن مع من في اليمن؟
لقد أنقذت الرياض اليمن بـ «عاصفة الحزم» في آذار (مارس) 2015، ولعل الوقت حان لعملية أخرى مشابهة، وأعتقد أنها لن تكون بعيدة، لكي تؤتي العاصفة أكلها، إذ غادر وزير الخارجية الأميركي جون كيري جدة أول من أمس (الخميس)، بعد اجتماعه بالمسؤولين السعوديين وطرح مشروعه للحل و «السلام الدائم والعادل»، وفق تصريح الخارجية الأميركية، ولكن من دون أن يرفقه بعضلات، كدأب الإدارة الحالية، فبعد مفاوضات الكويت، التي صبرت عليها المملكة ودعمتها، وأجهضها الحوثيون وصالح، يجب أن ندرك أن أية مفاوضات ومشاريع سلام لن تنجح إذا لم تكن هناك قوة تصحبها وتلزم كل الأطراف بمقتضياتها.