اتخذت الحكومة السعودية إجراءات تقشفية، بعضها يمس دخل المواطن، شرحها وزيران ونائب وزير ببرنامج «الثامنة» مع الزميل داوود الشريان، فاشتعلت المجالس وشبكات التواصل الاجتماعي غضباً وانتقاداً، ذلك أن نائب وزير قال إن السعودية كانت على وشك «الإفلاس» لو لم تتخذ تلك الإجراءات، وقال وزير آخر إن الموظف السعودي لا يعمل غير ساعة واحدة. الرسالة التي تلقاها المواطن أن الحكومة تلوم المواطن على قرارات لم يشارك في صناعتها وعليه اليوم أن يدفع كلفتها، ولا يزال الغضب والتلاوم مستمرين في شبكات الإعلام الاجتماعي ومقالات الصحف وبالتالي مجالس المواطنين.
وسط هذه الجلبة اختفت المعلومات المهمة، التي كاشف بها الوزراء الشعب السعودي، وهي مسائل ثلاث، وكلها مهمة ويجب أن يستعد لها المواطن، أولها: أن لا تراجع عن الإجراءات التقشفية، بل سنرى مزيداً منها. ثانيها: أن الدولة بصدد إعادة هيكلة «الوظيفة الحكومية» ومعها «الإنفاق الحكومي» بما يجعلهما أقل جذباً للمواطن، وأقل هيمنة على الاقتصاد الوطني الكلي. والأخيرة، وهذه أصعبها، كيف يضمن السعودي في المستقبل ألا يتخذ السياسي قرارات تتعارض مع توصيات الاقتصادي، حتى لا تتعرض البلاد لخطر كخطر «الإفلاس»، الذي فجر به نائب وزير التخطيط محمد التويجري قنبلة صدمت الرأي العام السعودي، ولما تخف آثارها على رغم محاولته التخفيف من وطأتها حين صرح لاحقاً بأنه «خانه التعبير». مرة أخرى انشغل الرأي العام بالتعبير وترك الحقيقة، التي صرح بها قبل التويجري، وزير آخر، هو محمد آل الشيخ، وزير الدولة وعضو مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ومن القيادات الفاعلة في عمليات «إنقاذ» الاقتصاد السعودي لا إصلاحه فقط، بل إن آل الشيخ كان أكثر تفصيلاً في شرح خطورة الوضع الاقتصادي لو لم يتخذ ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إجراءات سبقت قرارات إلغاء البدلات الأخيرة، التي فجرت الجدل الحاصل، بدأت بخفض حازم للموازنة في أوائل 2015 بنسبة الربع، وتجميد مشاريع هائلة وإعادة مناقشتها من جديد، وهي التي اتفق على تسميتها «أزمة تأخر الدفعات لشركات المقاولات الكبرى»، ولكنها في الحقيقة إعادة تفاوض مع تلك الشركات حول العقود الهائلة، وإعادة النظر في جدوى تلك المشاريع، ولم يعد سراً أن كثيراً منها بات بين الملغى والمجمد، وهي التي وصفها نائب وزير التخطيط بأنها «مشاريع ترف، ولم يكن لها خطة اقتصادية واضحة»، في اللقاء نفسه، وتلقى عليها هجوماً يضاف إلى الهجمة السابقة، بينما كان حرياً بالاقتصادي والكاتب السعودي أن يشكره لصراحته وشفافيته، لا أن يحاسبه على قرارات لم يشارك في اتخاذها.
تصريحات آل الشيخ لمجلة «بلومبيرغ» في نيسان (أبريل) الماضي تستحق أن تنشر مرة أخرى، وبخاصة أنها جرت في حضور ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو من شجعه على الكشف عنها، وهو يعلم أن المؤسسات المالية العالمية سوف تتلقفها ومعها الرأي العام السعودي، والذي ترجم له كامل المقابلة من دون حذف أو تعديل على رغم صراحتها ونشرت في كل الصحف المحلية.
بعد حديث بين مراسلي المجلة، والأمير والوزير عن ضرورة تعديل ضوابط الإنفاق، الذي اتسمت به مراحل سابقة جرى هذا الحوار، الذي أنقله كما هو لأهميته:
كم كان يضيع؟ يسأل مراسل المجلة. حدق آل الشيخ بعيونه على الطاولة قبل أن يقول:
«هل يمكنني إيقاف هذا (المسجل)»؟ ليتدخل الأمير: «لا، يمكنك أن تقول ذلك علناً».
يقول آل الشيخ في إجابته عن السؤال: «أرجح تخمينات هو أنه كان هناك إنفاق غير فعال يقدر بمبلغ يتراوح بين 80 إلى 100 بليون دولار» سنوياً، ما يعادل ربع موازنة السعودية بالكامل.
ليتدخل الأمير محمد ويقود دفة الاستجواب سائلاً إياه: «ما مدى قرب السعودية من التعرض إلى أزمة مالية»؟
ليقول محمد آل الشيخ إن الحال اليوم أفضل بكثير ويستطرد لكنك «لو سألتني السؤال نفسه قبل سنة واحدة من الآن بالضبط، لربما أوشكت حينها على التعرض لانهيار عصبي»، ثم روى قصةً لم يسمع عنها أحد من قبل من خارج الحرم الداخلي للمملكة.
قال فيها: «في الربيع الماضي، عندما توقع صندوق النقد الدولي وغيره أن تساعد الاحتياطات السعودية في إنقاذ البلاد لمدة خمس سنوات على الأقل من انخفاض أسعار النفط، اكتشف فريق الأمير أن المملكة ستصبح وبسرعة في حال إعسار. ولو بقي وضع الإنفاق عند مستويات شهر نيسان من العام الماضي لتعرضت المملكة (للإفلاس التام) خلال عامين فقط، في أوائل عام 2017». ويقول آل الشيخ إنه من أجل تجنب الكارثة، قام الأمير بتقليل الموازنة بنسبة 25 في المئة، وأعاد تطبيق ضوابط الإنفاق الصارمة واللجوء إلى أسواق الدين، كما بدأ في تطوير ضريبة القيمة المضافة والرسوم الأخرى، ما عمل على التقليل من معدل استنزاف احتياطات السعودية النقدية، الذي وصل إلى 30 بليون دولار أميركي في الشهر خلال النصف الأول من عام 2015.
عندها أنهى آل الشيخ تقريره السلبي من الناحية المالية، وقال له الأمير: «شكراً لك». انتهى النقل هنا عن «بلومبيرغ».
نعم، «شكراً لك» معالي الوزير والشكر مسبوق لسمو الأمير، فهذه الشفافية هي التي ستحمي الوطن من خطر «الأزمة المالية» أو «الإعسار» أو «الإفلاس التام». فعلى رغم قسوة العبارة، التي صدمت المواطن، إلا أنها الحقيقة، فلو «خاننا التعبير» فلن تخوننا الأرقام.
من الواضح أن الدولة تفعل الشيء الصحيح والضروري لإصلاح الاقتصاد، بل إنها تقوم بعملية إنقاذ له، ولكنها لم تفعل الصحيح لتقديم هذه الحقائق للمواطن وإشراكه وإقناعه بضرورة مشاركته في العملية. بالطبع يجد الموظف صعوبة في القبول بخفض راتبه، ولكنه سيقتنع، إن علم أن البديل هو خسارة كل الراتب. أعلم أن هناك من سيغضب مما أقول ولكن أدعوه إلى الصبر قليلاً. فالإفلاس، الذي تحدث عنه نائب وزير التخطيط، ليس المعني به «إفلاساً» كالذي تتعرض له شركة، فتضطر إلى إغلاق أبوابها وعرض أصولها للبيع والرحيل من السوق، إنما هو مصطلح اقتصادي مختلف عندما يتعلق بالدول، فاليونان مثلاً بلد مفلس، بل حتى بلد أوروبي يتقلب في الرخاء مثل آيسلندا، تعرض للإفلاس. حولنا دول عربية مفلسة، ولكنها لا تزال هناك تدفع القليل لمواطنيها، ولكنها جامدة في مكانها تفتقد السلع الأساسية وتفتقد ما هو أهم (الأمل)، وتعيش كل يوم تخشى ثورة أخرى. نحن في السعودية لدينا الكثير من الإمكانات ومعها الكثير من الأمل، الذي لا يجوز أن نفقده، لأن أحداً ما لم يقم باللازم للتواصل مع الرأي العام.
المقصود بالإفلاس، الذي حذر منه آل الشيخ والتويجري، هو استهلاك الاحتياط العام، الذي تهور بعض الكتاب، ومنهم اقتصاديون يطالبون الدولة باللجوء إليه، بينما من الواضح أن الأمير محمد بن سلمان يتعامل معه باعتباره مقدساً لا يجوز مساسه قدر الإمكان، بل ينظر إليه باعتباره مصدراً للدخل، كالنفط في باطن الأرض عندما يكتمل مشروعه الجاري لتحويله إلى صندوق سيادي يدر دخلاً سنوياً للموازنة العامة، مع القيام بدوره ضامناً للريال السعودي، الذي سينهار لو استهلك الاحتياط (ليس خلال 3 إلى 4 سنوات كما قال التويجري، بل خلال عامين كما قال آل الشيخ، ولا بد من الإضافة، إذا لم تتخذ الدولة الإجراءات التقشفية الجارية حالياً). مع اختفائه، ستختفي فرص المملكة في الاقتراض، وهي فرص تصل إلى حد القوة الآن، ورأيناها في الإقبال على السندات السعودية الأسبوع الماضي. حينها، مع اختفاء الاحتياط، وانهيار الريال، والعجز عن الاقتراض، سيستهلك بند الرواتب معظم دخل المملكة من النفط حتى لو بلغ تريليونات الدولارات، فإنفاقنا أيضاً بالتريليونات، حينها تتوقف دورة الإنتاج، والأمل بالنهوض بالبلاد وفق «رؤية 2030»، وتنويع مصادر الدخل. المملكة وشعبها بالتأكيد يستحقان مستقبلاً أفضل من هذا.