بالطبع لا تحتاج السعودية إلى علاقات ولا إلى تطبيع مع إسرائيل، لكن ما وجاهة السؤال؟ ولماذا يطرح الآن بقوة، في وقت تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وبالتالي يفترض تراجع الاهتمام بسؤال العلاقة مع إسرائيل، وأضحت أوليات السعودية تدور حول مسألتين مصيريتين لها، هما «الإصلاح الاقتصادي» ومواجهة «التهديد الأمني» المتمثّل بالتمدد الإيراني وحال انهيار الدول حولها، وليس لإسرائيل دور مباشر ولا ينبغي أن تكون شريكاً في هذين الأمرين.
السبب في طرح السؤال، أن لواءً سعودياً متقاعداً «تطوع» بزيارة إسرائيل، تلت ذلك سلسلة مقالات نشرت في صحيفة سعودية كبرى تنظر إلى فوائد التطبيع والعلاقة معها. بالتالي، اهتمت صحف العالم ومراكز البحث بتقليب السؤال، وذهب بعضها إلى انفراجة آتية في العلاقة بين البلدين، وسرّب آخر إشاعات عن لقاءات، لم تتم، بين مسؤولين سعوديين كبار وإسرائيليين.
لنفترض جدلاً أن السعودية وضعت جانباً رمزيتها الإسلامية ووضعها بوصفها حامياً للحرمين الشريفين، وكذلك تاريخها ومواقفها السابقة والمشدِّدة على عودة الحقوق الفلسطينية والعربية، والرفض الصارم لأي لقاءات أو حتى مجاملات مع جهات إسرائيلية رسمية، بما في ذلك على مستوى السفارات، فكان السعوديون، كما صرح أكثر من ديبلوماسي إسرائيلي، العرب الوحيدين الذين يمتنعون عن أية علاقات أو مجاملات مع الإسرائيليين.
لو وضعت الرياض ذلك كله جانباً وأخذت برأي اللواء المتقاعد، والزميلة سهام القحطاني التي كتبت خمس مقالات في صحيفة «الجزيرة»، تناقش فيها التطبيع، وانتهت في آخرها إلى أنه سيكون «مصدر خلاص للجميع»! ومضى مسؤول سعودي رسمي كبير واجتمع بنظير له في إسرائيل أو دولة عربية، وما أكثر المتحمسين لاستضافة اجتماع كهذا، فما الذي ستستفيده المملكة، وما الذي ستعرضه عليها إسرائيل في المقابل؟
الرياض حالياً مشغولة بأمرين، كما سبق القول، هما الإصلاح الاقتصادي والتهديدات الأمنية، وفي المقابل أتوقع أن أحدهم سيقول: إن إسرائيل ستقدم في المقابل دعماً للرياض في هذين الأمرين، ومعهما استخدام نفوذها «المفترض» الممتد من موسكو إلى واشنطن، وأخيراً تقدم تنازلات للفلسطينيين لكي تكون «الكريما» التي تجمّل كعكة التطبيع.
في مسألة الإصلاح الاقتصادي، ليس هناك ما تستطيع إسرائيل تقديمه. كل ما تحتاج إليه المملكة من مصالح وخبرات وأسواق يتوافر ما هو أفضل منه بعيداً من إسرائيل، حتى لو افترضنا أنه ضاقت علينا كل البدائل واحتجنا إلى شراء جهاز إسرائيلي متطور لمشروع سعودي استراتيجي، فثمة ألف طرف ثالث مستعد لشرائه وإعادة تصديره إلينا، وبالتالي نحذف مسألة الإصلاح الاقتصادي، فيتبقى «التهديد الأمني» الذي يدندن حوله دعاة التطبيع السعوديون، والحق أنهم قلائل، لكن كون أن مقالاتهم تنشر في صحف شبه رسمية، ولعله من باب الانفتاح الإعلامي، أعطاهم اهتماماً لا يستحقونه.
هنا لا كثير تستطيع أن تفعله إسرائيل لنا، بل ستكون عبئاً، ونحن نجمع من حولنا تحالفات إسلامية وعربية، حتى الدول التي طبّعت مع إسرائيل، كمصر وتركيا والأردن، وأخرى فتحت مع إسرائيل علاقات ومكاتب، فعلت ذلك في صورة ثنائية ولمصالح متبادلة، ولم تدخل مع الإسرائيليين بصفة حليف ضد طرف ثالث، بخاصة لو كان مسلماً، مثل إيران. أسوأ شيء تفعله الرياض في معركة علاقاتها العامة حول العالم الإسلامي، أن تظهر بمظهر المتحالف مع «الكيان الصهيوني» ضد إيران، بل ستكون هذه الهدية التي ينتظرونها في طهران، لذلك حبذا لو يتوقف الزملاء السعوديون عن تصويب الرصاص إلى أقدامهم وأقدامنا، فما فينا يكفينا.
لو وضع هذا جانباً، فما الذي تستطيع إسرائيل تقديمه في اليمن أو في سورية لنصرة السعودية؟ هل ستقف مع «الجماعات الإسلامية السلفية» التي تشكل قوام المعارضة هناك، بينما تعلم أنها نسخة قريبة من خصمها الرئيس في الأراضي المحتلة «حماس»، فتوفر لهم أسلحة مضادة للطيران مثلاً؟ ثم، هل لديها ما تقدمه لهم أو يسمح لها بتقديمه أكثر مما تقدّمه السعودية وتركيا وقطر؟
الشيء نفسه في اليمن، بل إن السعودية، وهي تقود التحالف، لا تحتاج فعلاً إلى مزيد مساعدة، وهي تستطيع حسم المعركة عسكرياً لولا حسابات سياسية معقدة وحرص على أرواح المدنيين اليمينين، فلا تزال تسعى مع المجتمع الدولي الى حل سلمي ما، لكنها قادرة وحدها متى أرادت على حسم المعركة، إذا فشلت المحاولة الأخيرة التي طرحها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في زيارته الأخيرة لجدة، وفي كلا الاحتمالين لا توجد حاجة إلى إسرائيل.
هناك معلومات استخبارية، وهذه للحق ميزة يتمتع بها الإسرائيليون، لكن لا يعقل أن تكون لدى الإسرائيلي معلومات استخبارية في اليمن لا تعرفها السعودية وتستحق المغامرة بثمن باهظ، كالتطبيع معها، ولا في سورية حيث للمملكة والأردن وتركيا وقطر مصادر استخبارية هائلة، وحتى لو افترض وجود معلومات مهمة جداً فثمة «دائرة» دولية للتشارك في المعلومات الاستخبارية تضم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والمملكة وحلفاؤها موجودون في تلك الدائرة.
يبقى «النفوذ الإسرائيلي» المتوهم، والذي يمكن المملكة أن تستفيد منه لدعم قضاياها وفق زعم «التطبيعيين»، وهذا نفوذ متوهم ومبالغ فيه، ويشاركني في هذا الرأي دانيال ليفي، مدير «ميدل إيست بروجكت»، وهي هيئة بحث معنية مثله بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إذ يقول: «هناك شعور قوي ليس بين العرب فقط، بل يمكن أن تجده حتى في الصين، بأن ثمة نفوذاً لإسرائيل كبيراً في دوائر القرار في عواصم مثل واشنطن ولندن، إنها مسألة مبالغ فيها كثيراً، وليس من الحكمة الاعتماد عليها خارج مصالح إسرائيل المباشرة فقط». هي تدافع وتنافح عن مصالحها فقط، وأحياناً عندما نتفق معها في مسألة فهو اتفاق عرضي وليس مبدئياً، فعندما جندت ساسة العالم خلفها لمحاصرة المشروع النووي الإسرائيلي كانت معنية بأمنها الاستراتيجي وليس بأمن المنطقة، فها هي إيران على الحدود مع إسرائيل ولم تهتم بذلك إلا إذا تجاوزت إيران و»حزب الله» خطوطهما الحمراء المتعلّقة بأمنها فقط، مثل نقل أسلحة معينة إلى لبنان، فتسارع الطائرات الإسرائيلية إلى تدميرها وحاملها، أما أن يستخدموها ضد السوريين فلا يعنيها هذا من قريب أو بعيد.
بالتأكيد، لا تحتاج الرياض إلى «نفوذ إسرائيلي» لتسويق مصالحها في واشنطن أو في إحدى العواصم الأوروبية، إذ أثبتت التجارب منذ صفقة الـ«أواكس» في الثمانينات، أن لديها النفوذ الكافي لحلحلة عقدها بنفسها، كلما تعطلت صفقة سلاح، أو احتاجت إلى صوت في مجلس الأمن.
لكن، في مسايرة لأصوات التطبيع، لنفترض أن إسرائيل تستطيع أن تخدم أهداف المملكة في سورية مثلاً، فتحرك لوبياتها المتنفذة في واشنطن أو موسكو، فتقنع الرئيس الأميركي أوباما بالتدخل لحماية الشعب السوري، وتقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانسحاب رحمة بالشعب، فهل هي ابتداء تتفق مع المملكة على الأهداف نفسها؟ هل يهم إسرائيل خروج بشار ونظامه، الذي تعايشت معه نصف قرن، لتحل مكانه حكومة سورية منتخبة يهيمن عليها إسلاميون وشعب لا يحتمل علاقة مع المحتل، يضغط عليها في كل انتخابات حرة؟ بالتأكيد لا، وجولة على ما تنشره مراكز البحث الإسرائيلية، وفلتات ألسنة السياسيين هناك، تشي بحجم قلقهم من سورية من دون بشار الأسد.
تبقى الذريعة الأخيرة لدى التطبيعيين، أن علاقة مع إسرائيل ستفضي بالضرورة إلى «تحسين أوضاع الفلسطينيين» بعدما اختفت جملة «إعادة كامل حقوق الشعب الفلسطيني»، فتكسب المملكة هذا الفضل العظيم، وفق زعمهم!
لقد ضاقت المساحة، لذلك أحيلهم إلى مقالة دانيال ليفي، نشرها أول الشهر في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وأشرت إليه سابقاً، عنوانها اختصر مضمونها: «نتانياهو يريد سلاماً من دون الفلسطينيين». من الواضح أن ليفي، وهو إسرائيلي بريطاني، أكثر واقعية من التطبيعيين السعوديين.