أعادت موافقة مجلس الوزراء على مشروع فرض رسوم على الأراضي البيضاء، الحياة إلى القضايا المحلية التي تختفي أمامها حرب اليمن، وانهيار الشام والعراق، فهي معيشة المواطن اليومية ومقياس رضاه وسخطه.
ذلك أنه سيغير قواعد لعبة الإسكان والإثراء والمعيشة في المملكة، من دون أن يكلف الحكومة قرشاً واحداً في موازنتها، بل سيكون مورداً إضافياً لها في الوقت نفسه الذي سيخفض كلفة معيشة المواطن المطحون ويدوِّر بعض الثروة التي استقرت عقوداً في خزائن جمع من الأثرياء المحتكرين.
أعتقد أن المواطن السعودي صبور، ولكن من الخطأ المراهنة على ذلك، ويكفي جولة في مجالس جدة أو الرياض لسماع غضبهم على مسؤولي الإدارة المحلية من بلديات وخدمات شتى، ويسبق ذلك أو يعقبه بعض عبارات الرضا على «القيادة» وجملة من نوع «والله الملك ما قصَّر، لقد أمر لهم بموازنات كافية، ولكنهم ما هم كفو».
نعم، السعودية أفضل من غيرها، ولكن ليست هذه ميزة عندما يكون جيرانك سورية والعراق واليمن على سبيل المثال وليس الحصر، فهذه دول تخلفت عن التنمية فأكلتها الحرب والفوضى، ولكن يجب أن نعترف أن «جودة الحياة» ليست بالمستوى الذي يريده السعودي، ويشهد على ذلك ملايين السعوديين الذين لا يتركون فرصة إجازة صيف أو منتصف عام، إلا وينتشرون في العالم، ولم أجد إحصاءات رسمية بذلك، ولكن أكثر من صحيفة محلية تضع الرقم بين 5 و 8 ملايين سائح سعودي انفقوا نحو 60 بليون دولار في الصيف الماضي. هؤلاء أكثر من ربع سكان المملكة، البقية الباقية تمنت لو ساحت هي الأخرى، بحثاً عن «جودة الحياة»، ولكن منعها ضيق ذات اليد لراتب منخفض أو قرض مرتفع أو بيت يُبنى.
هذا الإقبال المرتفع على السياحة تصويت شعبي على أن السعودي يريد «جودة الحياة»، فالمدينة السعودية لم تعد مريحة، ولا ممتعة، زحمة سير لا تطاق، عدم توافر حدائق وملاعب، شقق متكدسة، وتداخل في الأحياء بين التجاري والسكني، كل ذلك جعل الحصول على موقف سيارة أمام البيت أو العمارة مستحيلاً. لنأخذ مدينة جدة مثالاً، فمن الواضح أن أمانتها باتت عاجزة عن إدارتها وتوفير الخدمات الرئيسة المعتادة فيها، ناهيك عن النهوض بها ونقلها إلى حتى القرن العشرين وليس ٢١، كما يطالب دوماً كبار المسؤولين فيها. إنها عاجزة حتى عن رفع السيارات القديمة المهملة في شوارعها وأنقاض العمائر ورفع القضبان الحديدية المغروسة في الأرصفة وتغطية فتحات الصرف الصحي، وكلها تنتظر ضحية بائسة تتعثر فيها. إنها أعجز من أن أطرح عليها فكرة مقالتي هذه، وهي أنه حان للمدن السعودية أن تنتقل من «الحياة» إلى مرحلة «جودة الحياة».
أزمة السكن مع الإرتفاع الفاحش لأسعار الأراضي، جعلها تغض الطرف عن الإرتفاعات العمودية، من دون مراعاة للإشتراطات التي يعرفها طالب تخطيط مدن مبتدئ، كتوفير مواقف سيارات والفصل بين السكني والتجاري، ومساحات للحدائق والملاعب، هناك أحياء في شرق جدة متزاحمة بشكل مخيف، ظهرت خلال عقد واحد ولا تزال تتمدد من دون أي تخطيط.
إنها ليست جدة وحدها بل كل المدن السعودية، ولكنني أكتب عنها، لأنني أعيش فيها بعدما عدت إليها من البحرين التي ضاقت بي، ولكنني أنصفها وأقول إن «جودة الحياة» فيها أفضل من مدينتي جدة.
لا أستبعد أن يرد على مقالتي مدير العلاقات العامة في أمانة جدة، برسالة متقنة يسرد فيها المشاريع الهائلة التي تنفذها البلدية، وقد أضاف إلى كل مشروع كلفته البليونية، ولكن لماذا لا تنعكس هذه البلايين على «جودة الحياة» في المدينة؟
كل استطلاعات الرأي بما فيها المستقلة ومن جهات أجنبية تشير إلى أن غالبية السعوديين غير متحمسين للديموقراطية ولا يطالبون بها، ولكنهم بالتأكيد يريدون حياة أفضل.
فكيف نحصل على حياة أفضل؟ لنبدأ بتصغير حجم المدن السعودية التي تتمدد من دون جدوى اقتصادية مقنعة، فالإدارات المحلية عاجزة عن خدمة ما تحت يدها اليوم، فلمَ تخطط لأحياء جديدة بعيدة؟ لقد وصل العمران في المدن السعودية الكبرى الثلاث، الرياض وجدة والدمام، حتى 50 كيلومتراً بعيداً عن وسط المدينة، بينما لا يزال وسطها يعج بمساحات بيضاء شاغرة، بسبب احتكار مخل للأراضي التي يملكها أثرياء، من دون أن تكلفهم شيئاً. إنه استثمار أفضل من الذهب الذي يحتاج إلى حراسة وحفظ، والأسهم التي تحتاج إلى متابعة ومخاطرة، والتجارة التي تتطلب جهداً ومتابعة. إنها «تجارة التراب» كما سمَّاها اقتصاديون سعوديون غاضبون.
حلول كثيرة تطرح، مثل «رسوم الأراضي البيضاء» المشار إليه آنفاً، والذي أقرته الحكومة أخيراً، واحتفى به الرأي العام. ستُسهم هذه الضريبة في حل جزء من المعضلة، ولكن لن تحلها بالكامل، لذلك أعتقد بأن الحل يكون في إعادة المجتمع والاقتصاد السعودي إلى طبيعته، بإخراج الأجانب وتحديداً العمالة الرخيصة من المملكة والاقتصاد والمجتمع السعودي. إنه ليس موقفاً عنصرياً، وإنما حل اقتصادي واجتماعي. إنهم ليسم بخبراء ينقلون إلينا تقنية النانو أو صناعة الطاقة الشمسية، بل جلهم عمالة غير محترفة، صناعات غير مهمة، باعة ملابس أو جوالات، يزاحمون المواطن في المسكن والأرض والشوارع والطاقة والغذاء المدعومين، والأسوأ أنهم يصادرون فرصة الشاب المواطن في اكتساب ثقافة العمل وخبرته، فخلق معضلة لافتة على بعضها، صاحب عمل سعودي يشكو من سعودي عديم الخبرة ومفتقر إلى ثقافة عمل، وشاب محروم من العمل حيث يكتسب الخبرة وثقافة العمل، فيفضل صاحب العمل الموظف الأجنبي قليل الكلفة، مكتسب الخبرة ولديه ثقافة عمل. الحل أن يخرج «الأجنبي» من هذه المعادلة حتى يمكن حل معضلتها.
لقد أنفقت جدة لبناء جسور وأنفاق أكثر مما أنفقت بلديتا لندن وباريس مجتمعتين، ولكنها لا تزال تعاني من زحمة السير. إذاً لا بد من حل آخر غير بناء مزيد من الجسور والأنفاق. إنها بحاجة إلى نظام صارم لمواقف السيارات والفصل بين السكني والتجاري. خسْف أسعار الأراضي بقرار الرسوم البيضاء سيوفر مصدر دخل للدولة، ومعه يمكن البلديات من تحويل أراضي المحتكرين البيضاء إلى حدائق في الأحياء المزدحمة، وملاعب كرة قدم لأطفال وشباب هم أكثر سكان المملكة.
والأهم بعض من المشاركة الشعبية، مجالس أحياء ومجالس محلية منتخبة، حتى يتداخل المواطن مع وطنه، فلا يكون التلاحم مجرد مقالة في صحيفة أو جملة عابرة في مجلس كبير، نتبادل بعدها ابتسامات باهتة ودعوات مكررة.
يجب أن نحيي ثقافة الأحياء، نحن نلتقي بعضنا ببعض أكثر خارج المملكة مما نفعل داخلها، نتبادل التحايا مع معارفنا القلائل عندما ندخل المسجد، الذي يفترض أن يكون مركز الحي. لا أذكر أن دعاني أحد لاجتماع لمناقشة أي قضية تعنى بالحي، أو حتى المسجد الذي أراه ناقصاً في كثير من الخدمات، رخامه الأبيض يكاد يعميني كلما مشيت عليه وأنا في طريقي لأداء صلاة الظهر أو الجمعة، كلما أفعل أحدث نفسي بضرورة تشجير تلك المساحة، ستوفر ظلاً للمصلين لو ازدحم بهم المسجد وتخفف من حرارته، أعقد اجتماعاً منفرداً مع نفسي، أقرر فيه الاستفادة من ماء الوضوء لزراعة تلك الأشجار، ولكن أنسى كل شيء عندما أعود الى بيتي، فلا إمام المسجد دعاني للإجتماع ولا صاحب الأمير الذي بناه قبل عقود، وتمضي الحياة بنا جميعاً، الأمير والإمام والسكان في حدها الأدنى من التواصل الاجتماعي.
في 28 كانون الثاني (ديسمبر) المقبل ستجرى دورة ثانية للإنتخابات البلدية، وقد تحسنت صلاحيات أعضاء المجلس بعض الشيء. إنها فرصة سانحة لتعزيزها بجرعة أكبر من الصلاحيات فتشرك المواطن في «المسألة والمكاشفة والمحاسبة»، حتى تعود ثقة المواطن والذي عزف عن التسجيل في هذه الدورة، لشعوره بضآلة منجزات «ممثليه» في الدورة السابقة، هم يقولون لقد فعلنا الكثير، وهو يقول أنا لم أشعر بذلك.
كلمة المواطن هي الأهم، لذا حان الوقت أن نقول: «الشعب يريد جودة الحياة».