«الدكان» مغلق للإصلاحات

«الدكان» مغلق للإصلاحات

«الدكان» مغلق للإصلاحات

 تونس اليوم -

«الدكان» مغلق للإصلاحات

جمال خاشقجي

أصدقائي كثر في الهيئة العامة للاستثمار، ولن تعجبهم فكرة مقالتي هذه، إذ تتعارض مع ما يسعون إليه ويناضلون من أجله، ولكنها فكرة للنقاش حامت في ذهني بينما كنت أقلب ناظري بفخر قبل أيام في أروقة منتدى التنافسية الذي تحرص على تنظيمه الهيئة كل عام، للترويج لفكرة التنافسية محلياً، ولجلب الاستثمارات الأجنبية إلى المملكة بدعوة رؤساء شركات كبرى واقتصاديين وإعلاميين أجانب، للحديث وزيارة البلاد ولقاء نظرائهم السعوديين.

كونك سعودياً، لا بد من أن تشعر بالفخر إذ ترى في أروقة المنتدى شباب المملكة الآتين من أفضل جامعات العالم متعددي اللغات، بعضهم في مواقع قيادية حكومية أو في القطاع الخاص، يتحدثون بحماسة في ما بينهم أو مع ضيوفهم الأجانب عن رؤاهم لسعودية قوية متنافسة. استمعت إلى وزير التعليم الجديد أحمد العيسى (شاب هو الآخر بالنسبة إلى من تعودنا عليه ممن وصل إلى منصبه) يتحدث عن خططه الإصلاحية لتحويل التعليم وتمكينه من تخريج شباب قادر على التنافس. يفكر في إطلاق مدارس حكومية «مستقلة» لتكون منصات تنطلق منها أفكار تنافسية متعددة للتعليم، فكرة عظيمة تكسر الجمود والتكرار، لكنه لفت انتباهي إلى حقيقة لم أتوقعها عندما قال إن الطلاب المنتسبين الذين يدرسون في مدارس خاصة لا يتجاوزون 15 في المئة من طلاب المملكة، وأن 85 في المئة يدرسون في مدارس حكومية، ذلك أنني اعتقدت أن نسبة المؤمنين بالتعليم الأهلي أكثر بكثير، فجل من أعرف من أقارب وأصدقاء يفضلون المدارس الأهلية، ويتنافسون في اختيار أفضلها، ثم يشكون من ارتفاع أسعارها. اكتشفت أنني، وجل من اجتمع في أروقة المنتدى ممن يتحدثون بخليط من العربية والإنكليزية، شيباً وشباناً، ما هم إلا أقلية في مجتمع أكبر بكثير، غائب عن المؤتمر، بينما هم المقصودون برغبة أن يكونوا أكثر تنافسية، إذ يفترض أنهم الطبقة العاملة الموعودة بمئات الآلاف من الوظائف التي ما فتئ الوزراء يعدون بها كل سنة، وفي الوقت نفسه يريد المنظمون أن يكون الاقتصاد كله أكثر تنافسية. والحقيقة أن هناك تعارضاً بين الاثنين على رغم أنهما نظرياً متكاملان، فالغالبية من المواطنين الذين يتخرجون (أو يتساقطون) من مدارس وجامعات حكومية غير قادرين على التنافسية.

كي نجعل مدينة الملك عبدالله الاقتصادية أكثر إغراء من دبي، أو حتى من منطقة حرة في إثيوبيا، لشركة «سيمنس» الألمانية مثلاً، كي تصب بلايينها فيها وتؤسس مصنعاً، وتنتج مولداتها الكهربائية المتقدمة، وتنقل هذا النوع من الصناعة المتطورة إلى عالمنا، فلا بد من جعل بيئتنا الاستثمارية أكثر تنافسية في ما يخص الضرائب والتقاضي وسهولة التنقل والتصدير، وأيضاً سهولة استقدام العمالة والحصول على التأشيرات اللازمة لذلك. وهنا لا تمتاز دبي كثيراً عنا، لكن إثيوبيا قد تتفوق لأنها قادرة على توفير عمالة محلية.

إذا استطعنا ذلك، بتحسين جودة التعليم وقيم العمل، فلا مشكلة، ولكن إلى كم من الوقت نحتاج؟ هل يمكن أن نستمر في جلب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والمصانع ومعها عمالة وافدة أكثر، والتي لم تعد فقط تلك الرخيصة، بل باتت مسيطرة حتى في المواقع القيادية، كما كشف تقرير لمؤسسة التأمينات الاجتماعية السعودية الأسبوع الماضي؟ هذا غير أنهم لا يزالون يشكلون ثلاثة أضعاف المسجلين في التأمينات بين عموم القوة العاملة في المملكة.

هذه الحقائق وغيرها تشير إلى أن أمامنا كثيراً من الإصلاحات لنجريها قبل أن نشرع أبوابنا لمزيد من الاستثمارات ومعها مزيد من العمالة، وإلا سيكون اقتصاد المملكة في دورة مغلقة مؤداها إقصاء السعودي من دخول سوق العمل والتدرج فيها، ولن تنقطع إلا بغلق «الدكان» سنوات عدة، وترتيب البيت الداخلي بوضع مشروع وطني لتحرير السوق من العمالة الأجنبية في شكل تدريجي سريع وحاسم، ثم نشرع أبوابه من جديد بعد 5 أو 10 أعوام بديكور جديد، قوامه فرد تنافسي يؤسس اقتصاداً تنافسياً، وهذا بالتأكيد أكثر «استدامة» من الوضع الحالي المدمن على عمالة من خارج الوطن.

فكرة متناقضة مع كل ما يريده ويسعى إليه أصدقائي في الهيئة العامة للاستثمار التي بلغت من العمر عتياً ولما تحقق وعود القائمين عليها وضيوفها من الوزراء بتوفير «ملايين الوظائف». سمعنا هذا الوعد من رئيسها السابق عمرو الدباغ، وظل أكثر ما حوسب عليه من كتّاب الأعمدة السعوديين حتى رحل.

كرر الوعد رئيس «أرامكو» خالد الفالح في منتدى التنافسية، حين قال أن ثمة نصف مليون وظيفة قادمة في قطاع الخدمات البحرية في الساحل الشرقي، ولم يقل ما إذا كانت لسعوديين أم لأجانب، ولكن يفترض أنها لسعوديين، إذ لا يعقل أن يفخر مسؤول بتوفير وظائف لغير مواطنيه. لكن ما ضمانات ذلك في ظل بيئة العمل التي نعيشها المفضلة لغير السعوديين؟

ثمة نشاط دب في الحكومة أخيراً حيال هذه القضية، فوزير التجارة توفيق الربيعة نشط في تتبع جريمة التستر التجاري، بإقفال مؤسسات ومعاقبة متورطين والتشهير بهم، كما نشر إعلانات تُذكر المواطنين بأن «التستر» جريمة. وزير العمل مفرح الحقباني تحدث عن خطة لفرض السعودة في قطاع التجزئة، كما كثرت التسريبات عن أن نظام إغلاق المحلات مبكراً، ومراقبة التحويلات المالية البليونية للأجانب على وشك التطبيق. كل ذلك يفضي في النهاية إلى التعامل مع المشكلة الأم وهي وجود 10 ملايين أجنبي في البلاد، لا يعملون فقط في شتى الوظائف، بما في ذلك العليا منها، بل يديرون ويتملكون ويكتسبون الخبرة والمعرفة بأسرار السوق، ما يحرم السعودي من اكتسابها والتحول نحو «التنافسية»، كما تسعى النخبة التي اجتمعت في المنتدى بعيداً من الغالبية البائسة من العمالة السعودية، وجلهم (1.2 مليون) تراوح رواتبهم، ومرة أخرى وفق إحصاءات مؤسسة التأمينات الاجتماعية، ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف ريال، وهي رواتب متدنية لا تؤهل حتى لتملك واحد من 1.5 مليون وحدة سكنية وعد وزير الإسكان ماجد الحقيل بطرحها في السوق خلال السنوات الخمس المقبلة، وهذا وعد آخر سيتذكره المواطن السعودي ويضيفه إلى قائمة الوعود التي سمعها في المنتدى.

لكن تبقى تلك الإشارات كلها من الوزراء من دون «عاصفة حزم» حقيقية تقتلع المشكلة من جذورها. هناك حل يعرفه الجميع، وفي جعبة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ذكره في حديثه الشهير مع مجلة «إيكونوميست» قبل أسبوعين، إذ قال إن «هناك 10 ملايين وظيفة يشغلها أجانب نستطيع أن نلجأ إليها في أي وقت نختاره... لكن لا نريد أن نضغط على القطاع الخاص، إلا إذا كان هذا هو الملاذ الأخير».

أعتقد أن اللجوء إلى هذا الملاذ الأخير حان وقته منذ زمن، لقد أدمن القطاع الخاص على العمالة الأجنبية، وسيقدم ألف سبب وسبب يبرر تعاطيه لها. لقد حان وقت القيادة التي تستطيع اتخاذ القرار الصحيح والمؤلم معاً، فتنافسية الفرد السعودي هي الضمانة للوطن، وهي الحال المستدامة، وهي ما سيؤدي إلى اقتصاد تنافسي، وحتى ذلك الوقت لنقفل «الدكان» ونجري إصلاحات جذرية.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الدكان» مغلق للإصلاحات «الدكان» مغلق للإصلاحات



GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:44 2021 الإثنين ,06 كانون الأول / ديسمبر

الخوف والنافذة والقطار

GMT 08:13 2021 السبت ,04 كانون الأول / ديسمبر

«البوليفارد» مسرح التغيير الكبير

GMT 07:04 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

كثرة التنقل

GMT 07:42 2021 الأربعاء ,29 أيلول / سبتمبر

المنهج السعودي النموذج

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 19:19 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

مراهق فلبيني يدخل فرّامة كفتة لتنتهي حياته

GMT 20:36 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

أفضل أنواع وتصميمات الأحذية الرياضية وطرق العناية بهما

GMT 05:00 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

مجلس الشيوخ الأميركي يقر تعيين أول مسؤول في إدارة بايدن

GMT 05:13 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

نظام غذاء سري لأكبر أنواع أسماك القرش في العالم

GMT 06:08 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يعزز صدارته بفوز شاق على شيفيلد يونايتد

GMT 12:01 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

رونار وفكر الثوار

GMT 19:05 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 10:09 2021 الجمعة ,02 إبريل / نيسان

Isuzu تتحدى تويوتا بسيارة مميزة أخرى

GMT 18:28 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

مجلس الشعب السوري ينفي إصدار بطاقات هوية جديدة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia