بقلم : خالد الدخيل
ما يحصل داخل حركة النهضة التونسية، والخطاب الذي يبدو أنه يتبلور داخلها يمكن النظر إليه وتحليله بذاته كحدث أو تطور يعبر عن الحركة ودورها في المجتمع التونسي. لكن يمكن أيضاً النظر إليه من خلال ما يؤشر إليه خارج الحركة، وخارج تونس. تناولت شيئاً من الأول في مقالة الأسبوع الماضي. ومع أن هذا موضوع لا تفيه حقه مقالة واحدة، ولا حتى أكثر من ذلك، لا بد أن نلقي نظرة على دلالات انقلاب النهضة التونسية بالنسبة لما يحصل في العالم العربي ككل.
من هــذه الزاويـــة يمكن القول أن من بين ما ينطوي عليه هذا الانقلاب الفكري للنهضة ثلاث دلالات. الأولى أنه إذا كان الخروج من الإسلام السياسي، وتبني العلمانية لتحييد الدولة دينياً، وبالتالي قبول حرية المعتقد كحق إنساني، إذا كان هذا يعتبر انقلاباً مجلجلاً من حركة إسلامية كبيرة داخل الفكر الإسلامي، فإنه بالقدر نفسه يعتبر مؤشراً إلى ما تحبل به موجة الربيع العربي، وأن هذه الموجة لم تصل إلى خواتيمها بعد. انقلاب النهضة هو ذروة وصل إليها تحول بدأ مع موجة الربيع، ولا يزال مستمراً بسرعة متفاوتة، وبنتائج لا يمكن أن تكون متماثلة في كل مكان. لم تكن مواقف زعيم الحركة، راشد الغنوشي، بعيدة كثيراً عن ذلك منذ ما قبل الربيع العربي. لكن لم تكن النهضة مهيأة كما يبدو لتبني مواقف مثل هذه إلا بعد انهيار النظام السابق، ودخولها كطرف رئيس في العملية السياسية في تونس. وبما هي مواقف ترقى إلى مستوى الانقلاب الفكري داخل الإسلام وليس فقط الإسلام السياسي، فإنها جاءت نتيجة، أو استجابة لزخم وتداعيات موجة الربيع العربي، خصوصاً داخل تونس قبل غيرها. كيف؟ مع أن الإسلام السياسي لم يطلق الشرارة الأولى للربيع، إلا أنه اعتبره فرصته للانقضاض على النظام السياسي القائم. كاد الإخوان في مصر أن يحققوا ذلك استناداً إلى شعبيتهم الكبيرة، لكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً. ثم تبين أن الربيع العربي لم يكن في الحقيقة فرصة للإسلام السياسي، بقدر ما أنه مثل ما يبدو فاتحة لأفول هذا الإسلام. كان النظام الحاكم في الدول التي ضربتها الموجة أول ضحاياها. والإسلام السياسي هو ضحيتها الثانية.
المفارقة أن حركة النهضة نجت، حتى الآن، من هذه اللعنة. اقتربت من الإمساك بالحكم بعد أن كانت طريدة هذا الحكم في تونس. لكن قادتها كانوا أقل اندفاعاً، وأكثر نضجاً سياسياً من إخوان مصر. قاوموا إغراءات كرسي الحكم ليس تعففاً عن الحكم بقدر ما أنه على الأرجح انعكاس لرؤية تعتبر أن الحكم كمرتكز أساسي من مرتكزات الدولة هو مغنم، لكنه مغنم هش وخطير من دون استكمال مرتكزات هذه الدولة. شغلهم الشاغل، كما يبدو، كان ولا يزال منذ سقوط النظام السابق تثبيت أقدامهم في مشهد سياسي في حالة تحول، ولم يستقر على حال بعد، لا داخل تونس، ولا خارجها. وتمشياً مع ذلك تأتي مساهمة النهضة المتواصلة في بلورة نموذج سياسي لموجة الربيع في تونس يختلف في شكل جذري - حتى الآن - عن النماذج العربية الأخرى. والأغلب أن الضربة التي تعرض لها إخوان مصر بتداعياتها أكدت للنهضة نجاعة النهج الذي اختارته منذ البداية.
إذاً البروز الكبير لدور حركة النهضة، كامتداد لدور الإسلام السياسي في المنطقة، إنما تحقق نتيجة للربيع العربي، وليس سبباً له. من ناحية ثانية، من الصعب النظر إلى نجاح النهضة - مرة أخرى حتى الآن - في الإفلات من مصير الإسلام السياسي إلا باعتباره استجابة وتأقلماً مع متطلبات المرحلة الجديدة. وهي استجابة لم تملها المصلحة السياسية وحسب، بل أملتها أيضاً رؤية لا تنظر لمصلحة الحركة بمعزل عن مصلحة الدولة والمجتمع ككل. يؤشر إلى ذلك جرأة الاستجابة من حيث أن الحركة، كفصيل إسلامي، قررت الأخذ بفكرة أولوية الدولة والوطن الذي تمثله (لاحظ تخليها أثناء كتابة الدستور الجديد عن مبدأ أن الشريعة هي مصدر التشريع)، ثم غامرت بمفردها بتبني فكرة فصل هذه الدولة عن الدين. في الوقت نفسه، وانسجاماً مع ذلك، تبنت مبدأ حقوق الفرد في هذه الدولة، بما في ذلك حريته في الرأي والمعتقد. وهذه خطوة لا سابقة لها في التاريخ السياسي الإسلامي. وهي خطوة تم اتخاذها والإعلان عنها استجابة لتداعيات الربيع العربي التي لم تتوقف. وبما هي كذلك تمثل رداً عفوياً على تيار عربي ينكر، أو يمر بحالة إنكار، لحقيقة هذا الربيع وما يمكن أن ينطوي عليه.
هناك دلالة ثانية ومهمة في هذا الإطار لانقلاب النهضة، وهي أنه يمثل ذروة لحراك نقدي داخل الفكر السني تجاه ما بات يعرف بالإسلام السياسي بهويته السنية في المنطقة. وهذا واضح على أكثر من مستوى. فهناك موجة نقد علني، فقهي وأيديولوجي لهذا التيار، في السعودية ومصر مثلا. ثم هناك موقف الغالبية الذي يرفض المنحى المتطرف لتنظيم مثل القاعدة وتنظيم داعش، ولا يتردد في اعتبار كل منهما تنظيماً طائفياً وإرهابياً. هناك طبعاً من يتعاطف مع هذين التنظيمين، خصوصاً من بين عامة السنة لأسباب مختلفة ومتداخلة، بعضها سياسي مرتبط بمسار الأحداث كما في العراق وسورية مثلاً. ففي هذين البلدين يتعرض السنة لمآس دامية على يد النظام الحاكم في كل منهما، وعلى يد ميليشيات شيعية بمساعدة إيرانية من منطلق طائفي، إلا أن هذا لم يقف حائلاً دون الإفصاح عن الموقف النقدي، ولا عن وضوح الرؤية تجاه المنحى الإرهابي لبعض الفصائل السنية. في هذا الإطار يأتي الموقف الأخير لحركة النهضة كتتويج للمنحى نفسه، لكنه يأخذه إلى نهايته المنطقية خصوصاً لناحية تبنيه للدولة الوطنية الجامعة، وللعلمانية، ما يمثل مخرجاً فكرياً وسياسياً من حالة الطائفية التي تمسك الآن بتلابيب المشهد السياسي في المشرق العربي.
في مقابل ذلك، وباستثناء أقلية واضحة خصوصاً في لبنان، يلاحظ المراقب غياب هذا المنحى النقدي لدى غالبية نخبة الطائفة الشيعية تجاه الإسلام السياسي الشيعي. يبدو أن هذه الغالبية تتحرج لسبب أو آخر من اتخاذ موقف نقدي، سياسي أو عقدي، تجاه هذا الإسلام، وتجاه إيران التي تطرح نفسها كمظلة له في المنطقة، أو من مواجهة المنحى الطائفي والإرهابي لبعض فصائل الإسلام السياسي الشيعي مثل عصائب أهل الحق في العراق وحزب الله في لبنان. ربما أن انخراط الثاني في مقاومة إسرائيل حتى عام 2006 كان يغطي حقيقة دوره الإقليمي كذراع إيرانية. ومع أن هذا لم يعد مبرراً بعد الثورة السورية، إلا أن أحزاباً أخرى مثل فيلق بدر، وحزب الله في العراق، ليس لها تاريخ مقاوم، وإنما ينحصر دورها في اللعبة الطائفية منذ سقوط النظام العراقي السابق. ومع ذلك بقى التحرج ذاته. لا شك في أن هذا مرتبط بعوامل سياسية واجتماعية متداخلة أيضاً. لكنه موقف لافت أمام موقف النخبة الثقافية السنية الذي وصل ذروته على يد حركة النهضة. وبقدر ما أن موقف النهضة يعكس ميلاً للتخفف من وطأة السلطة الدينية، خصوصاً ما يسمى بسلطة العامة، يبدو أن موقف غالبية النخبة الشيعية من هذا الموضوع مرتهن لهذه السلطة. هل لهذا علاقة باختلاف التاريخ السياسي لمجتمع كل منهما؟ أو بحقيقة أن الحكم لدى السنة هو مسألة فقهية دنيوية وليس مرتبطاً بأصول الدين كما هي الحال بالنسبة للطائفة الشيعية؟ أم أنه انعكاس لأكثرية بقيت في الحكم لزمن طويل وحان زمن مراجعة هذا التاريخ؟ ولأقلية مسكونة بما تعتبره مظلومية، من زاوية يتنافس فيها الهاجس الطائفي مع التطلع الوطني؟ طبعاً لم أنسَ، إلى جانب ذلك، الدلالة الثالثة لانقلاب النهضة، لكن لكل ذلك حديث آخر.