بين بعثتين

بين بعثتين

بين بعثتين

 تونس اليوم -

بين بعثتين

بقلم : مصطفى فحص

و أدرك أطفال درعا أن جدران مدينتهم هي ما تبقى من الجهة الشرقية لجدار برلين، لما كتبوا عليها عبارتهم الشهيرة «جاك الدور يا دكتور»، ولكانوا أكثر حذًرا في رهانهم على ما يعرف بـ«المجتمع الدولي»، المصر طوال ما يزيد عن خمس سنوات، على التخلي عن دوره في المساعدة على وضع حّد للإبادات اليومية التي يتعرض لها الشعب السوري، من نظام يلجأ من مجزرة إلى أخرى من أجل تبرير بقائه، ومن إرهابيين شوهوا الثورة وحرفوها باسم الإسلام، فمارسوا استبداًدا ووحشية لا تقل قسوة عن ممارسات الأسد. حتى الآن، لم يصارح العالم الشعب السوري بأنه كان على علم بكل ما جرى طوال عقود خلف جدار البعث، وهذا ما لم يجعله متفاجًئا بحجم الجريمة التي يرتكبها الأسد، بل أصبح أكثر قدرة على التعايش معها، فالعالم الذي تعايش مع مستبدين سوفيات تحت حجة محاربة النازية، وتحالف مع مستبدين علمانيين وقوميين ويمينيين تحت حجة محاربة السوفيات، وعاد وتحالف مع أنظمة ديكتاتورية عربية من مخلفات الحرب
الباردة تحت حجة محاربة الإرهاب، هذا العالم لا يرى الآن حرجا في بقاء الأسد باعتباره خياًرا يعرفه.

لم يجد نظام المصالح الدولية حتى الآن بديلاً عن نظام البعث السوري، لذلك يتمسك بما تبقى من هياكله، في المقابل يدرك هذا النظام حاجة الغرب إليه، لذلك يقيم بحذر شديد في المساحات الآمنة، التي تتوفر له جراء تناقضات نظام المصالح الدولي في سوريا، ما يؤمن له المزيد من الوقت، بانتظار فرصة قد تتاح في لحظة تخٍل دولي كاملة، تسمح له بإعادة تأهيل نفسه، مستفيًدا من التجربة العراقية قبل سقوط البعث، عندما بالغ صدام حسين في فكرة الرهان على الحاجة الدولية لنظامه، ثم بعد الدخول الأميركي، حيث مارس الأميركيون ومن تسلموا السلطة أخطاء فادحة، دفعت العالم وحتى العراقيين الذين لم يعترضوا على الدخول الأميركي، إلى إعادة إنصاف نظام صدام في جوانب عدة.

تمكن تفاهم واشنطن وطهران من إقامة نوع من الحكم، ولكنهما تقصدا منع قيام الدولة، فقد توافقا على تسليم السلطة محاصصة بين المكونات العراقية، فتعامل من وصل إلى السلطة من منطق أغلبية منتصرة وأقلية مهزومة، حاولت تحميل جزء من العراقيين مسؤولية سنوات حكم البعث، فلجأت إلى الانتقام بدل العقاب، ومارست انتقائية في استيعاب البعثيين، ميزت بينهم مذهبًيا فكان الرد بـ«داعش»، سلطة اللون الواحد في بغداد، تكاد تعيد تكرار تجربة البعث في التعامل مع الأكراد، كما أن الأكراد على الرغم منشراكتهم في السلطة، فإنهم مستمرون بالتصرف كمعارضة، من جهة أخرى تعيش الشيعية السياسية هاجس عودة البعث إلى السلطة، فيتعامل بعضها مع العراق كغنيمة، فيما تحاول فئة أخرى مارست الاستبداد ذاته، الذي مارسه صدام حسين، وكأن العراق انتقل من سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي إلى «حزب... العربي الاشتراكي»، مما تسبب في السقوط السريع للتجربة الأخيرة بطريقة دموية على طريقة سقوط التجارب
البعثية.

فنظام البعث لا يغادر إلا وتاركا وراءه كارثة، ولعله كان بإمكان صدام حسين أن يغادر العراق دون التسبب باحتلاله، لكنه أصّر على تسليمه مدمى للولايات المتحدة، كما كان بالإمكان منع الأسد من التعامل بوحشية مع المتظاهرين السلميين في الأشهر الأولى للثورة، لكن رغبة كل الأطراف الدولية بأن تتحول القضية السورية إلى نزاع مسلح لا ينتهي إلا بنهاية سوريا التي كنا نعرفها.

الشموليات قومية كانت أم مذهبية في السلطة ليست نهائية، فالتاريخ يسير بشكل متعرج رغم وضوح نقطة البداية وإمكانية استشراف النهاية، إلا أن الجماعات البشرية تدفع ثمن التجارب الآيديولوجية، فمنذ 7 عقود فتح التحرك على الملك فاروق الباب أمام العسكرليتارية العربية بالوصول إلى السلطة، ثم جاءت انقلابات عملت مباشرة على استهداف الليبرالية العربية الناشئة وأحزابها المدنية، فقامت بإلغاء المجتمع لصالح الحزب الواحد، والحزب الواحد لصالح الجيش، والجيش لصالح الطائفة، والطائفة لصالح العائلة، والعائلة لصالح الفرد الذي ألغى المجتمع، والحزب والجيش والطائفة والعائلة لصالحه، ليقطع الطريق على أي إمكانية تغيير داخلي. فيما يبقى التحدي الحقيقي أمام العراقيين والسوريين بعد الخلاص من إرث البعث، في إعادة
اكتشاف أنظمة مصالحهم الوطنية المشتركة، والتزام المجتمع بشروط الديمقراطية، وبأن تنتج الأغلبية تعدديتها، وتؤمن الأقليات أنها ضرورة تحتاجها الأغلبية ضمن دولة وطنية، ملزمة بتوفير العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع أبنائها.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين بعثتين بين بعثتين



GMT 08:48 2019 الأربعاء ,20 شباط / فبراير

المرجعية الدينية ورعاية المواطن العراقي

GMT 04:58 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

السيستاني ورعاية الوطنية العراقية

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,06 شباط / فبراير

سوريا بين قيصرين

GMT 07:23 2019 الأربعاء ,30 كانون الثاني / يناير

العبادي ما بعد السلطة و«الدعوة»

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

إيران... الضربة آتية من الداخل

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia