الدولة الصامتة

الدولة الصامتة

الدولة الصامتة

 تونس اليوم -

الدولة الصامتة

عمرو الشوبكي

الحديث عن الدولة الصامتة هو حديث عن دولة عاجزة عن أن توصل رسالتها للمجتمع، لأن الدولة ليست فقط أجهزة ومؤسسات إنما أيضاً رسالة أخلاقية وسياسية تبثها داخل المجتمع.

والحقيقة أن الدولة كائن حى يتكلم ويواجه، ويختلف ويتفق، وليس فقط مجرد إدارات وموظفين وشرطة وجيش وقضاء كما يتصور الكثيرون عندنا، فالدول المستقرة والناجحة فى تأدية وظائفها ليست فقط التى تمتلك مؤسسات قوية أو متماسكة إنما التى تمتلك رسالة توصلها عبر وسائط كثيرة من مؤسسات تعليمية وجمعيات أهلية وأحزاب وقوى سياسية إلى مواطنيها، وتجعلهم يعرفون ضمنياً القواعد التى تحكم مجتمعهم ومساحات التوافق وقيم العيش المشترك قبل أن تستخدم الرادع القانونى تجاه من يخطئ.

ونستطيع أن نقول إن الدولة المصرية بثت قيماً جديدة فى المجتمع المصرى عقب ثورة 1919، ولعب حزب الوفد دوراً كبيراً فى هذا الإطار بصرف النظر عن الفشل والنجاح، فقد ظهرت قيم المواطنة وانتفض المجتمع من أجل الاستقلال والدستور اللذين ظلا قيماً أساسية تحرك القطاع الحى من المجتمع ونخبته.

أما دولة عبدالناصر فلم تكن ديمقراطية، كما جرى مع معظم تجارب التحرر الوطنى، لأن معارك دول العالم الثالث فى وقتها كانت من أجل الاستقلال ومحاربة الاستعمار، ولم يعن ذلك أنها لم تكن مهمومة ببث قيم جديدة داخل المجتمع من عدالة واشتراكية ومحاربة الاستعمار، بصرف النظر أيضاً عن النجاح والإخفاق، ولم تترك فرصة إلا واشتبكت مع قضايا الواقع، فصراعها مع الإخوان المسلمين مثلاً لم يكن مجرد صراع بين دولة وفصيل معارض مارس عنفاً وتخريباً فى مرات عديدة، إنما كانت بين مشروعين فكريين وسياسيين، ولم يترك عبدالناصر فرصة إلا وتحدث، واشتبك سياسياً مع خطاب الإخوان.

فمازال خطابه الشهير «والمفصل» عن رفضه إجبار النساء على ارتداء الحجاب حاضراً إلى الآن، وضرب مثلاً ببنات مرشد الإخوان فى ذلك الوقت غير المحجبات، وظل دائماً منتقداً لمشروعهم الفكرى والسياسى بعمق (وليس بالكلام «الأهبل» الذى نسمعه الآن).

والحقيقة أن ما جرى فى التاريخ المصرى الحديث من صمود فى وجه كثير من التحديات كان فى جانب رئيسى منه أن الدولة لم تكن صامتة فيما يتعلق بالقيم التى تدافع عنها، على خلاف ما جرى فى عهد مبارك حين كانت الدولة بلا رسالة ولا مشروع، وتدخل فيما لا يجب أن تدخل فيه، وتغيب حين يكون مطلوباً منها أن تدخل.

والحقيقة أن الدولة فى مصر مازالت محافظة على هذا السلوك الصامت، فلم يقل لنا أى «مسؤول كبير» لماذا الدولة الوطنية فى خصومة مع الإخوان (إلا تصريحات متناثرة يمكن أن يقولها وزير الداخلية عن عنف الجماعة)؟ ولماذا لم يتم استيعاب الإخوان فى العملية السياسية؟ وما الذى فعلوه حتى دفع قطاعاً غالباً من المصريين إلى قبول تدخل الجيش وعزل مرسى؟ وما المسطرة السياسية الحاكمة التى تبرر تدخل الجيش فى سياق محدد ولا تبرره فى سياق آخر، أم أن الأمر هو إيمان دائم (كما يقول البعض) بأنه لا بد أن يكون رئيس مصر من خلفية عسكرية؟

هى كلها أسئلة لا تقدم فيها دولتنا الصامتة أى إجابة أو رسالة من أى نوع، ولذا تركت الباب مفتوحاً أمام دعاوى القوى المناوئة أن تؤثر فى أوساط كثيرة، لأنها تمتلك خطاباً سياسياً متكاملاً قائماً على «المظلومية»، ومواجهة «الانقلاب»، وغيرها من المفردات المنتشرة فى أوساط الإخوان وحلفائهم، فى مقابل صمت السلطة الحاكمة والدولة التى تقودها.

مدرسة مبارك تقول «دع الحاكم بمنأى عن كل المشاكل والهموم، ودع الآخرين يتعاركون ويكفرون ويخونون بعضهم، لأن هذا يقوى وضع من فى السلطة» (سميتها فى مقالين فى 2008 المسكنات القاتلة، ودولة المواءمات)، والحقيقة أن أى رئيس ليس معنياً أن يدخل طرفاً فى صراعات سياسية مقيتة، ولكنه إذا أراد أن يحكم بمشروع جديد فسيكون مطلوباً منه الاشتباك مع القضايا الكبرى التى لا تتعلق بتدخل مصر فى اليمن من عدمه أو محاربة الإرهاب بالقوة فقط، إنما ببناء دولة ونظام فاعلين.

مثلاً هناك قضيتان فى غاية الأهمية شغلتا الرأى العام فى مصر، وغابت عنهما تقريباً دولتنا الصامتة: الأولى قضية الدعوة لخلع الحجاب، ما هو الموقف العام للدولة من هذه القضية أليس حرية الاختيار؟ لم يتكلم أحد خوفاً من أن تحسب على أحد، وتركت القيمة العليا (أى حرية الاختيار) غائبة عن النقاش فى هذه القضية.

دولتنا الصامتة غابت أيضاً عن مشهد حرق الكتب فى فناء إحدى مدارسها العامة، وتمسكت بالحسابات المباركية «ملناش دعوة خليهم يقطعوا فى بعض»، فى حين أن الدولة الوطنية ذات الرسالة السياسية ستقول: ليس باسمنا حرق الكتب حتى لو غنى الحارقون كل الأناشيد الوطنية.

الأمثلة كثيرة والدولة الـsilent (الصامتة) خطر كبير على مصر لأنها تجعل كل خلاف بلا سقف ولا رادع أخلاقى وقانونى، وهذا هو طريق الوصول للدولة الفاشلة مهما علت الهتافات والأغانى.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة الصامتة الدولة الصامتة



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia