الحكم ليس بالأمن

الحكم ليس بالأمن

الحكم ليس بالأمن

 تونس اليوم -

الحكم ليس بالأمن

بقلم : عمرو الشوبكي

على الأرجح يمكن القول إن الأمن المصرى قد حقق أهدافه فى إجهاض مظاهرات يوم الإثنين الماضى، وفض جميع المسيرات التى شهدتها بعض شوارع القاهرة وعدد محدود من المحافظات، دون وقوع خسائر فى الأرواح، ورغم قسوة التعامل الأمنى، إلا أنه فى نهاية اليوم يمكن لرجال الشرطة أن يقولوا: «تمام يافندم، لقد نجحنا وفضضنا كل التظاهرات خلال نصف الساعة».

نعم نجح الأمن وفض المظاهرات، ولكن ماذا بعد؟

المؤكد أن دور الأمن ظل موجودا منذ بداية نظمنا غير الديمقراطية، ولكنه لم يكن الدور الوحيد، خاصة حين امتلكت النظم الحاكمة مشاريع سياسية نجحت فى جذب غالبية الناس حولها، فاقتصرت مهمة الأمن على حصار التنظيمات «المناوئة» ومواجهتها كما جرى مع الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الليبراليين فى عهد عبدالناصر، وليس مع مواطنين «مناوئين على باب الله» دفعوا حياتهم ثمناً لانتهاكات أمنية صارخة.

والمؤكد أن مشروع الوفد الليبرالى، ومشروع عبدالناصر القومى، نجحا فى جذب ولاء القطاع الأغلب من المصريين بإرادتهم الحرة، فنظام عبدالناصر «غير الديمقراطى» نال أكبر شعبية فى تاريخ مصر المعاصر، وأَسّس تنظيمات الحزب الواحد التى كانت بنت عصرها، من هيئة التحرير مرورا بالاتحاد القومى انتهاء بالاتحاد الاشتراكى، وحين شعر عبدالناصر أن تنظيماته السياسية التى بناها وهو فى السلطة ضمت المؤيدين الحقيقيين والمنافقين لأى سلطة، أسس تنظيما سريا سماه «التنظيم الطليعى- طليعة الاشتراكيين»، كما أسس منظمة الشباب، محاولا رغم شعبيته الجارفة، أن يخلق وسيطا سياسيا، وبجواره عشرات المستشارين وكبار الكتاب والباحثين والخبراء، وبقى الأمن حاضرا بقوة بجوار سلطة السياسة القوية أيضا.

وجاء عصر السادات وقدم الرجل مقولات سياسية جذبت قطاعا يُعتد به من الشعب المصرى وعارضها قطاع آخر، وظل مدافعا عن تحالف سياسى مع الغرب وأمريكا بديلا عن تحالفات عبدالناصر مع الاتحاد السوفيتى، وطرح نظاما رأسماليا بديلا لاشتراكية عبدالناصر، ودافع عن التسوية السلمية مع إسرائيل من أجل تحقيق الرخاء الاقتصادى، وأعلن التعددية السياسية وأَسّس الحزب الحاكم الثانى «الوطنى الديمقراطى» فى عام 1978 وضم كثيرا من رجالات الدولة وقيادات الاتحاد الاشتراكى السابق، وظلت مقولات السادات السياسية حاضرة فى نفوس قطاع من الشعب المصرى، وظل الأمن حاضرا أيضا فى مواجهة القطاع المعارض.

وجاء حسنى مبارك، ومعه أسامة الباز، مستشارا سياسيا عملاقا، ثم تلاه دبلوماسى وسياسى لامع هو مصطفى الفقى، وكانت الطبعة الثانية من دولة يوليو- «وليس الطبعة الأخيرة الحالية»- مازالت تضم أسماء كبيرة: من رؤساء برلمان بوزن رفعت المحجوب حتى فتحى سرور، وزعيم للأغلبية مثل الراحل كمال الشاذلى الذى لف القرى والنجوع، وعرف عائلات مصر الكبيرة والصغيرة، وعرف كيف يعطى دائما هامشا للمعارضة، وحين غاب هذا الهامش مع أحمد عز فى انتخابات 2010 المزورة انهار النظام كله، وعرفت البلاد أيضا رؤساء وزراء بوزن فؤاد محيى الدين وكمال الجنزورى، وقادة عسكريين بوزن المشير العظيم عبدالحليم أبوغزالة «وصفته فى مقال سابق: قدر مصر الذى لم يأتِ»، ووزراء المجموعة الاقتصادية الأكثر تعليما وكفاءة، حتى لو اختلفنا مع كل توجهاتهم السياسية وانحيازاتهم الاجتماعية، ومع نظام ضم كل هؤلاء، وامتلك كثيرا من التحالفات السياسية والاقتصادية، لم يَغِب الأمن لحظة، بل زاد دوره بسبب بقاء مبارك 30 عاما فى السلطة.

محصلة العهود الثلاثة تقول إن عبدالناصر انشغل بالأمن ولكنه انشغل أكثر بالسياسة، وكذلك السادات الذى خالفه فى التوجهات، ولكنه لم يَنْسَ أن يروج لرؤيته بالسياسة وليس بالكلام الفارغ، وحتى مبارك الذى تراجعت السياسة فى عهده، فإن الدولة المصرية ظلت بها رموز مدنية وسياسية ترَبَّت فى عهود سابقة وعلى قدر معقول من الكفاءة.

إن امتلاك أى نظام حكم لرؤية سياسية يخفف من الأعباء الملقاة على أجهزة الأمن، وحين تغيب يتضخم دور الأمن تلقائيا لملء الفراغ الذى هجرته السياسة والعمل الأهلى والنقابى، وتصبح مهمته ليست فقط مواجهة المعارضين أو التنظيمات المتطرفة، إنما قمع كل شىء وإعادة ترتيب كل شىء أيضا من الأحزاب إلى القوائم الانتخابية إلى الإعلام إلى حتى الكلمة.

والحقيقة أن الوضع الحالى ليس فيه رجال حكم مؤيدون للنظام ولا رجالات دولة ولا كمال الشاذلى ولا فتحى سرور، وليست فيه مجموعة اقتصادية متجانسة، ولا توجد من الأصل رؤية سياسية، ولا يوجد مؤيدون قادرون على الحوار مع الشباب الغاضب، إنما فقط إعلاميون محرضون صاروا رموز الحكم الحالى والمتحدثين باسمه، وغابت السياسة، وطفحت نظرية المؤامرة مع دول يقول النظام السياسى كل يوم إنها حليفة لنا، ومع ذلك يروج كل يوم أنها تتآمر علينا.

فحين كان يقول عبدالناصر فى الستينيات إن أمريكا تتآمر علينا كانت علاقتنا معها مقطوعة، وحتى القمح الذى كانت تصدره لنا أوقفته، وحين كانت أوروبا تتآمر علينا كانت مصر تحارب فعلا، وتدفع الثمن من دماء أبنائها على ضفاف قناة السويس عقب تأميم القناة، لا أن يعجز نظامنا السياسى عن نفى التهم الموجهة إليه فى قضية مقتل ريجينى، فيحولها لتآمر الغرب ونضال ضد الاستعمار.

غياب السياسة والسياسيين واختيار الأضعف والأسوأ والأبهت- «لا يوجد شخص ولو من باب ذر الرماد فى العيون يمكن وصفه بـ(السياسى)»- جعل سيطرة الأمن هى عنوان المرحلة الوحيد، وصار الخطر كبيرا، لأنه لا يمكن بالأمن وحده أن تحيا الأوطان.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحكم ليس بالأمن الحكم ليس بالأمن



GMT 08:30 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

ثورة يناير .. هل كانت انتفاضة أم مؤامرة؟

GMT 07:12 2017 السبت ,19 آب / أغسطس

رابعة .. أيقونة جماعة الإخوان السوداء!

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 19:19 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

مراهق فلبيني يدخل فرّامة كفتة لتنتهي حياته

GMT 20:36 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

أفضل أنواع وتصميمات الأحذية الرياضية وطرق العناية بهما

GMT 05:00 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

مجلس الشيوخ الأميركي يقر تعيين أول مسؤول في إدارة بايدن

GMT 05:13 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

نظام غذاء سري لأكبر أنواع أسماك القرش في العالم

GMT 06:08 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يعزز صدارته بفوز شاق على شيفيلد يونايتد

GMT 12:01 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

رونار وفكر الثوار

GMT 19:05 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 10:09 2021 الجمعة ,02 إبريل / نيسان

Isuzu تتحدى تويوتا بسيارة مميزة أخرى

GMT 18:28 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

مجلس الشعب السوري ينفي إصدار بطاقات هوية جديدة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia