«دين الدولة» فى الدساتير 12

«دين الدولة» فى الدساتير (1-2)

«دين الدولة» فى الدساتير (1-2)

 تونس اليوم -

«دين الدولة» فى الدساتير 12

عمار علي حسن

لم تخلُ أى مرحلة تاريخية لمصر من علاقة ما بين الدين والدولة، منذ الفراعنة وحتى اللحظة الراهنة، إذ للدين فى مصر مكانة متأصلة فى النفوس والقلوب والعقول بصرف النظر عن تفاصيل التدين وطقوسه وتنقله من أديان مصر القديمة إلى اليهودية والمسيحية والإسلام، واستغلاله الممقوت فى السياسة والتجارة، وجعله وسيلة، على يد البعض، للإيهام والسيطرة والبغض والاقتتال.

على الجانب الآخر فإن للدولة، بتشكلاتها المادية وتجلياتها الرمزية، مكانتها الراسخة لدى المصريين عامة، لقدمها، إذ إنها أول دولة فى تاريخ الإنسانية، ولمركزيتها الصارمة، وكذلك للدور أو الوظائف التى تؤديها طيلة تاريخها المديد.

هذه الخبرة التاريخية لم تمت، رغم تعاقب القرون، وتبدل الأحوال، بل أعيد إنتاجها فى سياقات وفضاءات اجتماعية مختلفة، إلى أن وصلنا إلى الحقبة المعاصرة التى يشهد فيها السجال والتنافس والصراع بين السلطة السياسية والجماعات التى تتخذ من الإسلام أيديولوجيا لها فصلاً جديداً، يدور حول مسائل تتعلق بـ«دين الدولة» و«دولة الدين» تفرز خطابات وأدبيات ووقائع وأحداثاً وتدابير تنظيمية وحركية وشبكات وبنى اجتماعية عديدة.

وهذه الحمولات الفكرية والحركية تُعد غاية فى الدلالة بالنسبة للتجربة المصرية على وجه الخصوص، لارتباط الدولة بالدين الضارب بجذوره فى القرون الغابرة، ولقيام أول جماعة، بعد ظهور الدولة الوطنية، تربط الدين بالسياسة إلى حد عميق، وتحول الإسلام إلى مشروع سلطة سياسية، وهى جماعة الإخوان على أرض مصر، وكذلك لوصول هذه الجماعة إلى الحكم بشتى أركانه، بعد أن ظلت عقوداً من الزمن تقول للناس: امنحونى الفرصة، لتصبح تجربتها تلك مثلاً سيظل يُضرب حتى سنين طويلة مقبلة.

يبقى أقصر الطرق لرصد هذا التطور وأكثرها رسوخاً وشمولاً هو تتبع هذه المسألة فى الدساتير المصرية المتعاقبة، باعتبارها هى الإطار المرجعى الأساسى للدولة المصرية. إذ إن الدستور يجمع المبادئ العامة المتعلقة بتنظيم وباختصاصات السلطات العامة فى صك رسمى مستقر، ومن ثم فهو يمنحنا الاقتراب الأفضل فى دراسة كل ما يتعلق بالدولة، سواء كان الدين أو غيره.

وقد خلا أول دستور صدر لمصر عام 1882 من ذكر «الإسلام» ديناً للدولة، لكن جاء دستور 1923 ليبدأ أول خطوة فى الاتجاه المضاد حين نص فى المادة 149 منه على أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، ثم نص فى المادة 12 منه على أن «حرية الاعتقاد مطلقة»، فيما نصت المادة 13 على أن: «تحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية فى الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافى الآداب».

وألغيت مثل هذه المواد فى دستور 1930 الذى اكتفى بالنص على: «المصريون متساوون فى الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم بسبب الأصل، أو اللغة، أو الدين، وإليهم وحدهم يُعهد بالوظائف الحكومية والمدنية والعسكرية». لكن دستور 1954، الذى لم يطبق ولا تزال نصوصه تحظى برضاء واحترام القانونيين والسياسيين الثقات فى مصر، قد أعاد فى المادة 95 منه ما ورد فى دستور 1923، من أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، ثم فى المادة 11 التى نصت على أن «حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية فى الديار المصرية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافى الآداب». كما نصت المادة 48 على أن «الأسرة أساس المجتمع وقوامها الدين والأخلاق والوطنية ويكفل القانون تدعيم الأسرة وحماية الأمومة والطفولة وتوفير المنشآت اللازمة لذلك». وكرر دستور 1964 ما سبق أن ورد فى دستورى 1923 و1954 من أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية».

أما دستور 1971 فقد أخذ طريق البحث عن «دين الدولة» خطوات أوسع حين نص فى المادة الثانية منه على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، وإن كان قد ذكر فى المادة 40 أن «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة».

وحافظ الإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب ثورة يناير على المادة الثانية كما وردت فى دستور 1971، ثم جاء دستور 2012، الذى سيطرت جماعة الإخوان والسلفيون على صناعته، ليقطع شوطاً واسعاً نحو «دين الدولة» بمحافظته على المادة ذاتها ثم إضافة مادة عن شرائع الأديان الأخرى تنص على أن «مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية».

وأعادت المادة 10 من هذا الدستور توظيف الدين فى تسيير شئون الدولة من زاوية مغايرة، حيث نصت على أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية. وتحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية، وعلى تماسكها واستقرارها، وترسيخ قيمها الأخلاقية وحمايتها؛ وذلك على النحو الذى ينظمه القانون».

لكن هذا الدستور لم يكتف بتحديد إطار عام قابل لتأويلات متعددة أو مفتوح على اجتهادات متنوعة حول الشريعة، حين نص فى المادة الرابعة منه على أن «الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم. ويؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، يحدد القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء. وتكفل الدولة الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. كل ذلك على النحو الذى ينظمه القانون».

وجاءت التعديلات التى دخلت على هذا الدستور عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان لتلغى هذه المادة الثالثة، التى لاقت اعتراضاً حاداً من القوى المدنية والمثقفين، لكنها أبقت على المادتين الثانية والثالثة على حالهما، ونصت فى المادة 19 على أن «التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام». ثم وضعت التعديلات حاجزاً أمام تكوين أحزاب على أساس دينى، حيث نصت المادة 54 على أن للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية بمجرد الإخطار وفقاً للقانون، ولا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل، أو ممارسة نشاط معاد لنظام المجتمع، أو سرى، أو ذى طابع عسكرى أو شبه عسكرى. ولا يجوز حل الأحزاب إلا بحكم قضائى».

لكن تطبيق هذه المادة فى الواقع لا يزال يثير جدلاً كبيراً فى مصر، فبعد حل الحزب الذى شكلته جماعة الإخوان وهو «الحرية والعدالة» والذى كانت الجماعة، كتنظيم دينى بالأساس، تسيطر عليه تماماً، هناك من القوى الحزبية المدنية من ينظر إلى ما تبقى من أحزاب شكّلها التيار السلفى على أنها «أحزاب دينية» وإن كان السلفيون يرفضون هذا. ووصل الأمر إلى حد أن هناك من أطلق حملة، انضمت إليها أحزاب يسارية وليبرالية، تحت شعار «لا للأحزاب الدينية».

(وغداً سأقوم بإبداء ملاحظات أساسية على هذا التطور لقضية دين الدولة فى دساتيرنا).

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«دين الدولة» فى الدساتير 12 «دين الدولة» فى الدساتير 12



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia