أنقذوا الأديب الكبير محمد جبريل

أنقذوا الأديب الكبير محمد جبريل

أنقذوا الأديب الكبير محمد جبريل

 تونس اليوم -

أنقذوا الأديب الكبير محمد جبريل

عمار علي حسن

أديب كبير وإنسان خلوق رائع، عبر كثيرون على كفيه وهو متطامن راض، فوق شفتيه ابتسامة رائقة، وفى قلبه امتنان عميم. يعمل فى صمت، وينتج بدأب، ولا ينتظر شيئاً من أحد، ويمضى مستغنياً بزهده، ومكتفياً بسطوره الفياضة بالجمال والمعانى. وفى هذه الأيام يواجه مرضاً عاتياً فى صبر، ولا يجد عناية كافية وفعلية من الدولة رغم أن كثيرين نادوها وخاطبوها بأن تهتم به كما فعلت مع غيره، بل مع من هم أقل منه.

استقبلَنا فى ميعة الصبا، ونحن نخطو على مهل نحو غاياتنا النبيلة، كان يجلس فى صدارتنا برأسه الذى يشتعل شيباً، يلملم أطرافنا البعيدة فى مكتب وسيع بجريدة المساء، وينصت إلى تباشيرنا بإمعان وجدية ظاهرة. يغمض عينيه حتى يقدح ذهنه، ويلتقط كل شىء من أفواهنا، وكأننا قد استوينا على عروش الأدب. وما إن ينتهى الواحد منا مما ألقاه، شعراً كان أو قصة أو جزءا من رواية، حتى يطلب من الآخرين أن يدلوا بدلوهم فيما سمعوه، وفهموه ووعوه. فإن أجاد أحدنا فى النقد، باركه وربت كتفه، وإن تجاوز تجريحاً وتقبيحاً زجره، فكان بذلك يعلمنا، فى يسر وسلاسة ومن دون خشونة وفظاظة ولا ادعاء، كيف يمكن أن يكون النقد مدفوعاً بالمحبة قدر اتكائه على العدل والاستقامة العلمية، والعمق والشمول.

أتذكر جيداً ذلك اليوم من شهر فبراير 1990، الذى حضرت ندوته للمرة الأولى، كنت طالباً بكلية الضباط الاحتياط، وما إن نزلت من «الباص الميرى» أمام محطة سكك حديد مصر، حتى هرعت إلى مسجد الفتح، فخلعت ملابسى العسكرية وارتديت زياً مدنياً كان مستقراً فى قعر حقيبتى، وهممت فى شارع الجمهورية، ومنه إلى شارع زكريا أحمد حيث «جريدة المساء». على الباب كان موظفو الأمن يتركوننا نصعد إليه، حين نقول لهم: ندوة الأستاذ محمد جبريل.

ولمَّا ترك موقعه كرئيس للقسم الأدبى فى الجريدة، انتقلت الندوة إلى مبنى نقابة الصحفيين القديم ذى الحديقة الساجية والمقاعد الخشبية البسيطة. انقطعت عنها سنين، وعدت ذات مساء، ودخلت على مهل فوجدته جالساً بين أصدقائه الصغار، ينصت إليهم من جديد. بعض القدامى كان لا يزال موجوداً، وغابت الكثرة، وحل محلها وافدون جدد، جاءوا من الشوارع الخلفية يبحثون عن مكان وسط الزحام الرهيب.

هكذا ظل الأستاذ جبريل مزاوجاً بين رغبته الطاغية فى الكتابة، والتى أثمرت عشرات الروايات والمجموعات القصصية والدراسات الأدبية، وبين حرصه على أن يسهم فى اكتشاف المواهب وتشجيعها، قدر استطاعته، وذلك فى وقت اكتفى فيه كثيرون بما يكتبونه وكأنه الدر المكنون، وأوصدوا أبوابهم أمام الآخرين من الباحثين عن فرصة للتعلم والتحقق، وهربوا منهم، بأنانية مفرطة ووهم طاغ بأن الساحة لا يجب أن تتسع إلا لهم، وأن أى نجم يلمع فى سماء الأدب سيسحب من أضوائهم هم فيتساقطون فى بحار الظلمات.

ورغم إنتاجه الغزير، لم يلق «جبريل»، حتى هذه اللحظة ما يستحقه من نقد أكاديمى عميق وواسع ولا من جوائز تقدر جهده وإبداعه مهما اختلف حول قيمته وقامته النقاد ومانحو الجوائز، لكن هذا لم يمنعه من أن يكتب هو عن غيره فى حفاوة وحب، غير ملتفت إلى ما يصيبه من تجاهل وجحود، وغير عابئ بما أورثه له الأدب، كتابة ورعاية، من رقة حال، وبساطة عيش، وهموم ثقيلة لا تنقضى أبداً. فبينما تراه، وهو فى هذه السن المتقدمة، يقفز فى «باصات» النقل العام آتياً من مصر الجديدة قاصداً قلب القاهرة الزاخر ضجيجاً وطحناً، تراه أيضاً منكباً على مكتبه، الأحلام فى رأسه والقلم فى يده والسطور البيضاء تسكنها الحروف أمامه، فيبدو لك راهباً مخلصاً للسرد والحكى والإمتاع والمؤانسة، وللجمال والمعنى، والإصرار الذى لا يتراخى على الإضافة والتجويد والتحقق، بكل ما أوتى من استطاعة وموهبة.

هذا الأديب يرقد مريضاً الآن وقرار رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب بشأن علاجه فى الخارج لم يفعّل، وبُح صوت الأدباء والمثقفين من أجل أن تتحمل الدولة نفقات علاجه كاملة، فهو فقير لا يملك من حطام الدينا شيئاً، لكن لا حياة لمن تنادى.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنقذوا الأديب الكبير محمد جبريل أنقذوا الأديب الكبير محمد جبريل



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia