أحلام غاندى 23

أحلام غاندى (2-3)

أحلام غاندى (2-3)

 تونس اليوم -

أحلام غاندى 23

عمار علي حسن

ربما كان خيال غاندى ينطلق نحو حلمه البعيد وهو يسير على قدميه لخمسة عشر كيلومتراً يومياً فى شوارع لندن، وقت أن كان يدرس القانون هناك، فقد كان يلتمس فى المشى هدوء الروح، بمقدار ما كانت روحه الهادئة الكارهة للعنف تدفعه إلى سير تقوده عينان مفتوحتان على الداخل والخارج معاً. ربط ذلك الشاب الناحل، البسيط اللباس، بين المشى وأغراضه السياسية التى اتخذت من المسيرات الجماهيرية الطويلة أداة لها، بدءاً من عام 1913 وما تلاه. وحسب الناقد الأدبى المعروف فيصل دراج استعار غاندى من عادة المشى ثلاثة أبعاد على الأقل: الاعتماد على العمل العضلى، إذ الإنسان عامل فى خدمة ذاته، ورفض السرعة الصادرة عن الآلات، وتوليد إرادة التغيير، إذ فى مشى الجموع ما يقضى على العطالة وبلادة الروح. عبّر غاندى بفعل المشى عن منظور بسيط للحياة، وعن بساطة فاعلة لها أغراض سياسية. فما حلم به عام 1920، وهو استقلال الهند، أنجزه مشياً بعد أقل من ثلاثين عاماً.

ولكن السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا المقام: كيف لرجل روحانى على هذا النحو أن يمارس دوراً سياسياً عظيماً، بل ويلهم كثيرين على هذا الدرب؟ هنا يجيب عباس محمود العقاد فى كتابة «روح عظيم.. المهاتما غاندى»: «إذا قلنا إن غاندى لم يكن سياسياً فنحن لا نريد بذلك أنه كان دون السياسيين فى ملكات عقله، ولا أنه كان مفتقراً إلى الدهاء الذى تقوم عليه السياسة، فإنه لم يكن خلواً من الدهاء، ولم يكن مقصراً عن الساسة فى ملكات العقل والسليقة، ولكنه لم يكن سياسياً؛ لأنه كان يعمل فى سياسة قومه بأسلوب غير أساليب الساسة، بل غير أساليب الدعاة الشعبيين فى أكثر الأحيان. كان يعمل فى السياسة بأساليب القديسين».

وتبدو هذه النقطة لافتة إلى حد بعيد، إذ يعود العقاد ليفصل فيها، بعد أن وجد أنها بحاجة إلى شرح مستفيض، إذ كيف يمارس القديس السياسة، وهى فن الممكن، أو «اللعبة القذرة»؟ وهنا يواصل:

«قد يقال: وما للناسك الجاد فى نسكه وللسياسة؟ إنه غريب عنها وهى غريبة عنه... عليه أن يعتزلها مع الدنيا، وأن يدع للناس أمر دنياهم يدبرونه على هواهم، وينجو بروحه وضميره من هذا الزحام، إلى صومعة من صوامع الوحدة والقنوت. وهذه حقيقة تقال وتُسمع فى سيرة غاندى وأمثاله. ولكنها حقيقة ناقصة؛ لأنها حقيقة من جانب واحد، وهو الجانب الذى يملكه غاندى ويختاره دون الجانب الذى يساق إليه على الرغم منه، وهو قيادة الهند بأجمعها فى طريق الخلاص. إن الهند لا تنفعها إلا زعامة واحدة: وهى الزعامة التى تخاطب روحها وتنفذ إلى صميم وجدانها. إن زعامة الساسة الذين ينغمسون فى الدنيا تضلها وتؤذيها وتثير فيها الريبة وسوء المظنة. فلم تُخلق لها زعامة أصلح من زعامة الرجل الذى لا يُستراب فى مقاصده ونياته، وهو الرجل الناسك المقبل على عالم الروح. فالهند لا تترك غاندى إذا تركها. وهو إذا تركها كان أقل من غاندى وأصغر؛ لأنه يؤثر خلاصه على خلاصها، وينظر فيما يريحه ولا ينظر فيما يريحها. عندما تكون الزعامة كسباً وجاهاً لصاحبها تضحية وإنما يكون ترك الزعامة فيقال: إنه ضحَّى بالكسب والجاه فى سبيل العزلة الروحانية».ربما كان خيال غاندى ينطلق نحو حلمه البعيد وهو يسير على قدميه لخمسة عشر كيلومتراً يومياً فى شوارع لندن، وقت أن كان يدرس القانون هناك، فقد كان يلتمس فى المشى هدوء الروح، بمقدار ما كانت روحه الهادئة الكارهة للعنف تدفعه إلى سير تقوده عينان مفتوحتان على الداخل والخارج معاً. ربط ذلك الشاب الناحل، البسيط اللباس، بين المشى وأغراضه السياسية التى اتخذت من المسيرات الجماهيرية الطويلة أداة لها، بدءاً من عام 1913 وما تلاه. وحسب الناقد الأدبى المعروف فيصل دراج استعار غاندى من عادة المشى ثلاثة أبعاد على الأقل: الاعتماد على العمل العضلى، إذ الإنسان عامل فى خدمة ذاته، ورفض السرعة الصادرة عن الآلات، وتوليد إرادة التغيير، إذ فى مشى الجموع ما يقضى على العطالة وبلادة الروح. عبّر غاندى بفعل المشى عن منظور بسيط للحياة، وعن بساطة فاعلة لها أغراض سياسية. فما حلم به عام 1920، وهو استقلال الهند، أنجزه مشياً بعد أقل من ثلاثين عاماً.

ولكن السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا المقام: كيف لرجل روحانى على هذا النحو أن يمارس دوراً سياسياً عظيماً، بل ويلهم كثيرين على هذا الدرب؟ هنا يجيب عباس محمود العقاد فى كتابة «روح عظيم.. المهاتما غاندى»: «إذا قلنا إن غاندى لم يكن سياسياً فنحن لا نريد بذلك أنه كان دون السياسيين فى ملكات عقله، ولا أنه كان مفتقراً إلى الدهاء الذى تقوم عليه السياسة، فإنه لم يكن خلواً من الدهاء، ولم يكن مقصراً عن الساسة فى ملكات العقل والسليقة، ولكنه لم يكن سياسياً؛ لأنه كان يعمل فى سياسة قومه بأسلوب غير أساليب الساسة، بل غير أساليب الدعاة الشعبيين فى أكثر الأحيان. كان يعمل فى السياسة بأساليب القديسين».

وتبدو هذه النقطة لافتة إلى حد بعيد، إذ يعود العقاد ليفصل فيها، بعد أن وجد أنها بحاجة إلى شرح مستفيض، إذ كيف يمارس القديس السياسة، وهى فن الممكن، أو «اللعبة القذرة»؟ وهنا يواصل:

«قد يقال: وما للناسك الجاد فى نسكه وللسياسة؟ إنه غريب عنها وهى غريبة عنه... عليه أن يعتزلها مع الدنيا، وأن يدع للناس أمر دنياهم يدبرونه على هواهم، وينجو بروحه وضميره من هذا الزحام، إلى صومعة من صوامع الوحدة والقنوت. وهذه حقيقة تقال وتُسمع فى سيرة غاندى وأمثاله. ولكنها حقيقة ناقصة؛ لأنها حقيقة من جانب واحد، وهو الجانب الذى يملكه غاندى ويختاره دون الجانب الذى يساق إليه على الرغم منه، وهو قيادة الهند بأجمعها فى طريق الخلاص. إن الهند لا تنفعها إلا زعامة واحدة: وهى الزعامة التى تخاطب روحها وتنفذ إلى صميم وجدانها. إن زعامة الساسة الذين ينغمسون فى الدنيا تضلها وتؤذيها وتثير فيها الريبة وسوء المظنة. فلم تُخلق لها زعامة أصلح من زعامة الرجل الذى لا يُستراب فى مقاصده ونياته، وهو الرجل الناسك المقبل على عالم الروح. فالهند لا تترك غاندى إذا تركها. وهو إذا تركها كان أقل من غاندى وأصغر؛ لأنه يؤثر خلاصه على خلاصها، وينظر فيما يريحه ولا ينظر فيما يريحها. عندما تكون الزعامة كسباً وجاهاً لصاحبها تضحية وإنما يكون ترك الزعامة فيقال: إنه ضحَّى بالكسب والجاه فى سبيل العزلة الروحانية».

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحلام غاندى 23 أحلام غاندى 23



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia