شهد الفلاح المصرى عهودا متباينة من الظلم والإنصاف حسب التوجه الاجتماعي-الاقتصادى للنظام الحاكم فى مصر وموقفه من قضايا الفلاحين فى العصر الحديث. وكان الفلاح المصرى ومنذ انهيار الدولة المصرية القديمة (الفرعونية) قد رزح لآلاف السنين تحت وطأة احتلالات أجنبية دنيئة لم يكن لها من هم سوى الاستحواذ على أرضه وإنتاجه وامتصاص دمه بكل أشكال الجزية والضرائب.
وكان ذلك الاستغلال المروع عاملا مهما فى انهيار الكتلة السكانية لمصر بالاشتراك مع دورات الجفاف السباعية الرهيبة لنهر النيل والتى تتكرر كل قرن أو قرنين وتودى بحياة أعداد هائلة من السكان. وكانت أدنى التقديرات لعدد سكان مصر تتراوح بين 10، 15 مليون نسمة عند نقطة الميلاد أى قبل ما يزيد عن ألفى عام، لكن العدد انهار إلى 2,5 مليون نسمة فقط فى أول تعداد للسكان فى عهد محمد على قبل قرنين من الزمان.
وحتى فى العصر الحديث اعتبر محمد على أرض مصر كلها ملكا له وقسم الإشراف عليها بين كبار موظفيه ورؤوس العائلات والقبائل الموالية له، إلى أن بدأت الملكية الفردية للأرض عام 1946 مع قيود كثيرة على التصرف فى الأرض حتى جاءت اللائحة السعيدية عام 1858 لتقر ملكية الأرض والتصرف فيها. وحدث تغيير كبير فى الملكيات بعد انكسار الثورة العرابية والاحتلال الإجرامى البريطانى لمصر عام 1882 حيث نزعت أرض عائلات من شاركوا فى قيادة الثورة، وحظيت العائلات التى خانت عرابى وتواطأت مع الخديوى توفيق ومع الاستعمار البريطانى الدنئ بمساحات كبيرة من الأرض التى منحت لرؤوسها وجعلت منهم إقطاعيين كبار بين عشية وضحاها.
ولم يستعد الفلاح المصرى كرامته إلا مع السياسات المنصفة له والتى تبناها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وعلى رأسها الإصلاح الزراعى وبناء سد مصر العالى لإنقاذ الريف المصرى من الفيضانات المدمرة ومن كوارث الجفاف ومن رزايا عدم انتظام جريان النيل على مدار العام. لكن كل من الرئيس الراحل أنور السادات، والرئيس المخلوع مبارك ارتدا على تلك السياسات بما سمى برفع الحراسات فى عهد السادات، والقانون 96 لسنة 1992 فى عهد مبارك. وانتهج الأخير جملة من السياسات المخربة لقطاع الزراعة وللصناعات القائمة على المواد الخام الزراعية. وهذا القطاع ينتظر إنصافا حقيقيا من النظام الجديد الذى يتشكل بعد ثورتين ضد نظامين أحدهما ديكتاتورى فاسد وظالم، والآخر متاجر باسم الدين ويتسم بالفاشية والفشل، وكلاهما ظالم للفلاحين.
وقبل تناول الملامح الرئيسية لإنصاف الفلاحين فى عهد ناصر، وقهرهم فى عهد مبارك، وما ينتظرونه من الدولة بعد ثورتين، لابد من الإشارة سريعا إلى واقع ودور ومكانة القطاع الزراعى المصرى فى الوقت الراهن.
ملامح عامة لقطاع الزراعة والصيد
يسكن الريف المصرى نحو 48.4 مليون نسمة يشكلون نحو 57.2% من السكان المقيمين داخل مصر. لكن قسما مهما من هذا العدد يعمل فى أعمال غير زراعية فى الجهاز الحكومى والخدمات والورش والصناعات الخاصة. وتبلغ قوة العمل الزراعية نحو 6.7 مليون عامل بنسبة 27.9% من إجمالى عدد المشتغلين فى مصر. ويتميز هذا القطاع بمشاركة عالية من النساء فى قوة العمل، حيث تبلغ نسبتهن الرسمية 31.1% من العاملين فى قطاع الزراعة. ولو أضفنا إليهن النساء اللاتى تعملن بلا أجر لدى أسرهن فى الأعمال الفلاحية الحقلية والمنزلية فإن النسبة يمكن أن ترتفع لقرابة 45% من قوة العمل الزراعية.
وتنتج مصر نحو 22.5 مليون طن من الحبوب منها نحو 9.5 مليون طن من القمح، ونحو 7 ملايين طن من الذرة بأنواعه المختلفة، ونحو 5.9 ملايين طن من الأرز. كما تنتج نحو 22 مليون طن من الخضر، ونحو 10 ملايين طن من الفواكه، و3 ملايين طن من البصل، ونحو 10 ملايين طن من البنجر السكري، ونحو 15.9 مليون طن من قصب السكر.
كما تنتج مصر نحو 1.37 مليون طن من الأسماك أكثر من مليون طن منها من الاستزراع السمكى فى المياه "العذبة" فى الترع والمصارف بنسبة تلوث غير مقبولة صحيا. ومن ثروة حيوانية تبلغ نحو 9.2 مليون رأس من الأبقار والجاموس، ونحو 9.7 مليون رأس من الأغنام والماعز، تنتج مصر سنويا نحو 5.9 مليون طن من الألبان، ونحو مليون طن من اللحوم الحمراء. كما تنتج مصر نحو 600 ألف طن من اللحوم البيضاء، ونحو 5.9 مليار بيضة سنويا.
وعودة إلى موضوع إنصاف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر للفلاحين، وقهرهم فى عهد مبارك، وما ينتظرونه من الدولة بعد ثورتين، من الطبيعى أن تكون نقطة البداية هى الإنجازات التاريخية للفلاحين فى عهد عبد الناصر..
عبد الناصر والإنصاف التاريخى للفلاحين
ربما كان الإصلاح الزراعى هو أسرع إجراءات تدخل الدولة بعد الانقلاب الثورى فى 23 يوليو عام 1952 الذى تحول لثورة اجتماعية بعد تلاحم الشعب معه، حيث تم إقراره فى 9 سبتمبر من نفس العام، وتلاه عدد من قوانين الإصلاح الزراعى اللاحقة له والتى صدرت فى أعوام 1953، 1957 ، 1958 1961، 1962، 1963، 1969.
نص القانون رقم 178 لسنة 1952 – قانون الإصلاح الزراعى الأول – على تحديد حد أقصى للملكية الزراعية بما لا يجاوز 200 فدان للفرد مع جواز التصرف فى 100 فدان للأولاد. كما تضمن القانون نصوص لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر وبين العمال الزراعيين ومستخدميهم.
وفى عام 1953 صدر القانون 598 لسنة 1953 الذى قضى بمصادرة أموال وممتلكات الأسرة المالكة السابقة، ومن بين تلك الأملاك مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية.
وفى عام 1957 صدر القانون 148 لعام 1957 لتنظيم تملك الأفراد للأراضى البور والصحراوية، وتلاه القانون 1952 لعام 1957 الذى يقضى باستبدال الأرض الموقوفة على جهات البر العامة.
ثم صدر القانون رقم 24 لعام 1958 الذى حدد ملكية الأسرة – الزوج، الزوجة، الأولاد القصر – بما لا يجاوز 300 فدان إذا كان سبب زيادة الملكية بطريق التعاقد.
وبعد ذلك صدر القانون 127 لعام 1961 الذى حدد ملكية الفرد بما لا يجاوز 100 فدان من الأراضى الزراعية والبور والصحراوية، ثم صدر القانون 44 لعام 1962 الذى يقضى باستبدال الأراضى الموقوفة على جهات البر الخاصة.
ثم صدر القانون رقم 15 لعام 1963 الذى قضى بحظر تملك الأجانب للأراضى الزراعية وما فى حكمها من الأراضى البور والصحراوية وأيلولة ما يملكونه من هذه الأراضى إلى الدولة المصرية.
ثم صدر بعد ذلك بعدة سنوات القانون رقم 50 لعام 1969 الذى حدد الملكية فى الأراضى الزراعية وما فى حكمها من الأراضى البور والصحراوية بمائة فدان للأسرة التى تشمل الزوج والزوجة والأولاد القصر، وبخمسين فدانا للفرد الذى لا يدخل ضمن أسرة بحسب هذا التعريف.
ونتيجة لهذه القوانين الصادرة قبل القانون 50 لعام 1969 آلت إلى الإصلاح الزراعى مساحة تزيد على المليون فدان بقليل أضيف إليها بعد ذلك نحو 32.5 ألف فدان بعد صدور القانون رقم 50 لعام 1969.
وقد قامت الدولة بتوزيع الجانب الأعظم من الأراضى الزراعية التى آلت إلى الإصلاح الزراعى على الفلاحين الذين تملكوها أو استأجروها، وبلغ عدد هؤلاء المنتفعين ملاكاً ومستأجرين نحو 362 ألف أسرة ينتفعون بمساحة من الأراضى بلغت 939 ألف فدان.
وقد ربط قانون الإصلاح الزراعى بين الانتفاع بملكية الأرض التى وزعت طبقاً لقانون الإصلاح الزراعى الأول، وبين القيمة الإيجارية لها، حيث وضع حدا أعلى للقيمة الإيجارية يوازى سبعة أمثال الضريبة العقارية على الأرض، كما حدد نصيب المالك الذى يؤجر أرضه بطريقة المزارعة بنصف غلة الأرض على أن يلتزم بالمساهمة بنصف مصروفات زراعة الأرض.
كذلك حددت المادة 38 من قانون الإصلاح الزراعى حداً أدنى للأجر اليومى للعامل الزراعى بـ 18 قرشا وحددت الحد الأدنى للأجر اليومى للنساء والأولاد بعشرة قروش، كما حددت يوم العمل بثمانى ساعات. وللعلم فإن القدرة الشرائية لأجر العامل الزراعى وفقا لذلك القانون تعادل أكثر من 2000 (ألفين) جنيه من جنيهات الوقت الراهن.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإصلاح وما يترتب عليه من انتزاع الأرض من كبار الملاك الذين تزيد ملكياتهم عن حد معين وتوزيعها على صغار الفلاحين أو العمال الزراعيين الأجراء لا يرتبط بالنظام الاجتماعى الاشتراكي، حيث قامت بالإصلاحات الزراعية نظم اشتراكية وأخرى رأسمالية، بل إن بعض الأنظمة الرأسمالية التى كان مشهوداً لها بتشددها الرأسمالى قامت بمثل هذه الإصلاحات مثلما حدث فى إيران عهد الشاه وفى كوريا الجنوبية وتايوان واليابان فى عهد ميجي. كما أن الإصلاح الزراعى فى غيطاليا عام 1935 حدد الملكية بـ 25 فدانا.
وقد أدى الإصلاح الزراعى إلى زيادة إنتاجية الأرض والفلاح الذى اصبح مالكا لها، وحرك جزء من المخزون البشرى الراكد فى الريف إلى المدن كعمال فى الصناعات التحويلية التى توسع عبد الناصر فى إنشائها بصورة غير مسبوقة أو ملحوقة فى تاريخ مصر حتى الآن. كما خلق الشروط الضرورية لتحول الزراعة فى الريف إلى زراعة رأسمالية تعوض نزوح الريفيين إلى الحضر باستخدام الآلات الحديثة فى الزراعة، وتتجه فى تحديد هيكل المزروعات للاستجابة لمتطلبات المدن وحتى الأسواق الخارجية بدلاً من الاقتصاد الطبيعى أو الإقطاعى القائم على الاكتفاء الذاتى فى الغالب.
ووفقاً لقانون الإصلاح الزراعى الأول ألزمت الدولة الفلاحين الذين وزعت عليهم أرض الإصلاح بتسديد ثمنها كاملاً خلال أربعين عاماً فى شكل أقساط سنوية، لكن ثمن الأرض خفض للنصف بعد ذلك بموجب القانون 128 لسنة 1961، ثم خفض للربع بموجب القانون 138 لعام 1964.
وبالنسبة لعلاقات ملاك الأرض بمستأجريها، لم يهدف قانون الإصلاح الزراعى إلى نزع ملكية الملاك وفقاً لشعار "الأرض لمن يفلحها"، وإنما حافظ على استمرار ملكيتهم وأعاد تنظيم العلاقة بينهم وبين المستأجرين. وتم ذلك بوضع حد أقصى للقيمة الايجارية للأراضى الزراعية قدر بسبعة أمثال الضريبة العقارية على الأرض مع عدم جواز طرد المستأجر عندما يريد المالك إلا إذا ارتكب الأول مخالفات جسيمة. وقد كان لتدخل الدولة فى تحديد قيمة الإيجارات أثره الكبير فى الريف المصرى حيث أن الأراضى المؤجرة كانت تشكل نحو 75% من مساحة الرقعة الزراعية قبل صدور قانون الإصلاح الزراعي، لكن الأراضى لم تدخل بالطبع تحت طائلة المواد الخاصة بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر فى قانون الإصلاح الزراعى، إذ يبدو أن الكثيرين من الملاك نجحوا فى استعادة أراضيهم من المستأجرين سواء بالتراضى أو لعدم وجود علاقة مؤاجرة رسميةً.
ويمكن القول بناءً على الاتجاهات العامة لتأثير قوانين الإصلاح الزراعي، أنها أدت لإعادة توزيع الدخل بين فئات ريفية مختلفة لصالح الفقراء والطبقة الوسطى الريفية. كما أدت إلى إعادة توزيع جانب من الدخل الزراعى من المدينة إلى الريف عبر نزع بعض ملكيات الملاك الكبار الغائبين وتوزيعها على الفلاحين وتعديل قوانين الإيجارات.
كما فرض قانون الإصلاح الزراعى الأول لعام 1952 على الفلاحين الذين انتفعوا بملكية الأرض التى وزعت طبقاً لذلك القانون، أن ينضموا إلى الجمعيات التعاونية التى حدد دورها بتنظيم زراعة الأرض واستغلالها بأفضل شكل عبر قيامها بتوفير مستلزمات الإنتاج والآلات الزراعية والإشراف على تحسين عمليات الرى والصرف ومقاومة الآفات الزراعية وتنظيم التسويق التعاونى وممارسة الإرشاد الزراعى. وقد بلغ عدد التعاونيات التى أنشئت فى الأراضى التى تم توزيعها على الفلاحين 663 جمعية محلية و 56 جمعية مشتركة تضم كل واحدة منهم نحو 12 جمعية.
ومن الضرورى الإشارة إلى أن تلك الجمعيات أسهمت فى المزيد من تنظيم الزراعة المصرية وفى توفير مدخلات الإنتاج من بذور وأسمدة ومبيدات، وآلات الإنتاج مثل الجرارات التى أصبح بإمكان المالك الصغير استخدامها بالتأجير. ومن المؤكد أن مستوى الخدمات التى كانت الجمعيات تقدمها للمزارعين كان جيداً فى عهد عبد الناصر على الأقل.
الدورة الزراعية وتحديث الزراعة
يعد تفتت الملكيات الزراعية وقزمية غالبيتها، ملمحاً من ملامح الملكية الزراعية فى مصر وهذا التفتت يتفاقم باستمرار بسبب نظام الوراثة المعمول به فى مصر والذى يقود إلى مزيد من قزمية الملكيات وتعد هذه القزمية فى الملكيات الزراعية عائقا أمام الاستفادة من ميزات الإنتاج الكبير ومن وفورات الحجم المرتبطة به. وقد شكل هذا الوضع منطلقاً ومبرراً مشروعاً فى الحقيقة لتبنى الدورة الزراعية لمحاولة الاستفادة من ميزات الإنتاج الكبير ووفورات الحجم مع عدم المساس بالملكيات الخاصة القزمية للأرض.
وقد تم عبر الدورة الزراعية، توحيد المحصول ووقت زراعته وحصاده فى كل زمام من الزمامات التابعة لقرية ما والتابعة بالضرورة لجمعية تعاونية زراعية، مما أتاح إمكانية استخدام الآلات فى عمليات الزراعة ورش المبيدات والحصاد، وأتاح الاستفادة بوفورات الحجم والتحكم فى التركيب المحصولى وفق حاجة الشعب والاقتصاد واعتبارات الأمن القومى فى مجال الزراعة والغذاء.
ويتشابه نظام الدورة الزراعية المصرية مع النظام الذى استحدثته اليابان إبان إصلاحات ميجى فى ذلك البلد منذ عام 1868، حيث كان مضمون ذلك النظام هو التنظيم على الشيوع لأراض مملوكة ملكية خاصة، بالضبط مثل نظام الدورة الزراعية فى مصر.
وعلى صعيد آخر أقر النظام الناصرى نظام التسويق التعاونى. وقد بدأ نظام التسويق التعاونى فى مصر محدوداً بحدود الجمعيات التعاونية التى نشأت على الأرض التى وزعت طبقاً لقانون الإصلاح الزراعى لعام 1952، ثم أخذ فى التطور مع امتداد النظام التعاونى وبسطه مظلته على الريف المصرى، ولم يأت عام 1956 حتى كان كل محصول القطن فى مصر يسوق تعاونياً. كذلك بدأ التسويق التعاونى لمحاصيل القطن والأرز والبصل والفول السودانى والبطاطس وبذلك أصبح التسويق التعاونى يغطى حاصلات التصدير الرئيسية فى مصر .
وقد كانت الأهداف التى حددتها الدولة كأساس لتطبيق نظام التسويق التعاونى، هى إزاحة طبقة السماسرة من مختلف مراحل التسويق، وحماية الفلاحين من استغلال هؤلاء الوسطاء ومن التذبذب الذى كانت تتعرض له أسعار محاصليهم من جراء تلاعب الوسطاء بها.
الاستصلاح وبناء السد غيرا مصير الزراعة
قامت الدولة الناصرية بتنفيذ استثمارات كبيرة فى قطاع الزراعة سواء فى استصلاح الأراضى أو فى مجال شق الترع والقنوات وصيانتها أو فى مجال مشروعات البنية الأساسية الكبرى مثل بناء القناطر و بناء السد العالى . وقد بلغت مساحة الأراضى التى تم استصلاحها خلال سنوات الخطة الخمسية 59/1960 – 64/1965 نحو 536 ألف فدان، أى أكثر من 107 آلاف فدان فى العام خلال تلك الفترة. وتم استصلاح قرابة مليون فدان خلال العهد الناصرى بمعدات تعود إلى ذلك العهد ولا تقارن إطلاقا بالمعدات الحديثة المتاحة حاليا. ولاشك أن إضافة هذه المساحة المستصلحة شكلت إضافة للأصول المنتجة فى الريف المصرى.
كما ساهمت الاستثمارات المنفذة فى الرى والصرف فى صيانة التربة وتحسين خصائصها وزيادة قدرتها الإنتاجية مما كان له أثر طيب على رفع مستوى إنتاجية الأراضى .
أما مشروع السد العالى الذى يعتبر أهم المشروعات التى أقامتها مصر فى تاريخها الحديث فإن آثاره كانت كبيرة جداً على قطاع الزراعة وهو بالفعل أهم إنجازات العهد الناصرى، بل أنه اختير كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم كله فى القرن العشرين.
وقد بلغ الحجم الصافى للمياه التى وفرها هذا المشروع العملاق نحو 19 مليار متر مكعب من المياه عند أسوان بعد خصم الفواقد بالتبخر، وتحصل مصر منها على 7.5 مليار متر مكعب، بينما يحصل السودان على 11.5 مليار متر مكعب. وقد أتاح نصيب مصر من هذه المياه، زيادة الرقعة المنزرعة بنحو 1.3 مليون فدان. كما أدى إلى تحويل رى الحياض الى نظام الرى المستديم. كما أدى لرفع إنتاجية المحاصيل الزراعية من خلال تحسين حالة الصرف وضمان مياه الرى فى الأوقات الملائمة للمحاصيل. كما يتم توليد نحو 1.4 مليون كيلووات/ساعة من المحطة الكهربائية التى أنشئت على السد العالى بتكلفة تقل كثيرا عن تكلفة محطة حرارية واحدة، وهى كمية من الكهرباء توفر على مصر قرابة 15 مليار جنيه سنويا فى الوقت الراهن. كما تم تحسين الملاحة فى النيل سواء لنقل البضائع أو لنقل السياح فى رحلاتهم النيلية. كما أدى إلى حماية مصر من أخطار الفيضات المدمرة التى كان يتم تخصيص نحو 100 ألف مهندس وعامل لمواجهتها خلال شهور الفيضان.
وبالرغم من ضخامة الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التى جنتها مصر من وراء السد العالى ، إلا أن دوره فى حماية مصر من دورات الجفاف الرهيبة يعد بحق المأثرة التاريخية للسد العالى بالنظر إلى الآثار المرعبة لدورات الجفاف على البشر والزرع والثروة الحيوانية فى مصر.
وفى الفترة من عام 1979 إلى عام 1987 لعب السد العالى أعظم أدواره فى حماية مصر من جفاف كان من الممكن أن لايبق ولايذر لو لم يكن السد العالى قد بنى. وبالنظر الى أن مخزون البحيرة كان 133 مليار متر مكعب عند مستوى 177.75 مترا عام 1979، فإن مصر استهلكت منه عاما بعد عام حتى بلغ المخزون الحى مجرد 5.4 مليار متر مكعب قبل فيضان عام 1988. وكانت مصر مهددة بكارثة مروعة لو لم يأت الفيضان فى ذلك العام. لكن الفيضان جاء جبارا وفى ذلك العام الذى بلغ إجمالى الإيراد المائى للنيل خلاله نحو 106 مليارات متر مكعب.
ورغم وجود بعض الآثار الجانبية للسد العالى إلا أنها كلها يمكن معالجتها بصورة فعالة وتحويل بعضها إلى منفعة كبرى مثل الإطماء فى بحيرة ناصر الذى كون جزيرة من الطمى الخصب فى البحيرة والذى يمكن نقله كتربة شديدة الخصوبة لنغطى بها أراضى الاستصلاح،
مبارك وتدمير المنجزات الزراعية لعبد الناصر
بالرغم من أن الرئيس السابق محمد أنور السادات قد بدأ مبكرا فى التخلى عن النموذج الناصرى فى قطاع الزراعة، إلا أن هذا التخلى استمر بشكل تدريجى ووصل ذروته فى عهد مبارك بضرب الجمعيات التعاونية، وإنهاء الدورة الزراعية وترك القطاع الزراعى يتحرك بصورة عشوائية لا عقل لها. وأكمل المنظومة بالتراجع عن الإصلاح الزراعي، فى واحدة من الحالات النادرة لهذا التراجع فى العالم بأسره. وكان ذلك التراجع قد تمثل فى القانون 96 لعام 1992. ولعل أكثر الأشياء الصادمة عند معالجة ما جرى بشأن تطبيق القانون 96 لسنة 1992 هو سيادة المنطق التسلطى والأمنى لنظام مبارك فى معالجة رفض المستأجرين للقانون
وكانت أهم نصوص القانون 96 لسنة 1992 هى تلك المتعلقة بانتهاء عقود إيجار الأراضى الزراعية نقداً أو مزارعة بانتهاء السنة الزراعية 96/1997 ما لم يتفق المؤجر والمستأجر على غير ذلك. وكان ذلك يعنى أن المستأجرين للأراضى الزراعية فى مصر سيكون عليهم إخلاؤها. وهناك نصوص أخرى أقل أهمية مثل النص المتعلق برفع القيمة الايجارية إلى 22 مثل الضريبة على الأراضى أى أكثر من ثلاثة أمثال القيمة الإيجارية قبل تطبيق القانون.
وقد أظهر نظام مبارك إصراراً صارماً على تطبيق القانون كما هو واعتمد المنطق الأمنى فى مواجهة أى معارضة له. وقد تجسد ذلك فى بعض عمليات الاعتقال للفلاحين المستأجرين الذين شاركوا فى أعمال الاحتجاج على القانون فى محافظات الغربية (قرية العطاف مركز المحلة الكبرى)، والمنيا (مطاى وسمالوط)، والبحيرة (سراندو). بل إن بعض المستأجِرين المشاركين فى الاحتجاجات سقطوا قتلى فى محافظة المنيا. كما قامت وزارة الداخلية باعتقال عدد كبير من الفلاحين وبعض قيادات الأحزاب المعارضة للقانون بالذات من أحزاب التجمع والناصرى والعمل وتم توجيه عدة تهم إليهم من ضمنها الإرهاب.
ماذا يريد الفلاحون من الدولة بعد ثورتين؟
بعد أن أنجز الشعب المصرى ثورتين ضد نظامين للفساد والاستبداد، فإن الفلاحين يعقدون آمالا عريضة على إحداث تغيير جوهرى فى قطاع الزراعة للتحديث وإعلاء قيم العدالة وحماية حقوق الفلاحين. فالفلاحين يحتاجون من الدولة أن تقوم بدور مباشر فى حمايتهم، أو حتى تقوم بدور التاجر المرجح الذى يقود السوق لضمان اسعار عادلة للبذور والأسمدة والمبيدات والسلالات الحيوانية ، وأسعار منصفة للمحاصيل والمنتجات الزراعية. كما يحتاجون إلى دور فعال للدولة فى الإقراض الميسر لهم.
كما يحتاجون إلى قيادة الدولة للتحديث الزراعى الكفيل بمضاعفة الإنتاجية والإنتاج للمحاصيل والثروة الحيوانية. وعلى سبيل المثال فإن إنتاجية الجاموس الإيطالى من الألبان تبلغ خمسة امثال إنتاجية الجاموس المصري، ولو تم الإحلال أو الإضافة للثروة الحيوانية المصرية سيكون بالإمكان مضاعفة إنتاج مصر من الألبان ومنتجاتها. وبسبب الاحتكار السائد فى عمليات الاستيراد، فإن سعر رأس الجاموس الإيطالى فى مصر يصل إلى ما يتراوح بين 200%، 300% من تكلفة استيرادها البالغة 1200 يورو فقط، بما يعنى ان الفلاحين الذين يرغبون فى اقتنائها يتعرضون لاستغلال مروع من محتكرى الاستيراد، ومن حقهم ان تحميهم الدولة وتوفرها بأسعار مرتبطة بتكلفة الاستيراد فقط. كما أن استخدام الآلات الحدث التى تقوم بعمليات زراعية متكاملة مثل "الكومبوند" يمكن ان يحقق زيادة كبيرة فى الإنتاج. ولو تم عمل مشروعات صغيرة ومتوسطة فردية وتعاونية برعاية الدولة للاستزراع السمكى فى البحار فى الأقفاص العائمة على شواطئ مصر البالغ طولها 2800 كيلومتر، فإن مصر يمكن أن تتحول لدولة مصدرة كبيرة للأسماك الآمنة صحيا. وعموما هذا التحديث هو أحد الآمال الكثيرة التى يعقدها المواطنون على دولتهم بعد ثورتين ضد الفساد والاستبداد والفاشية الدينية.
سجناء «سراندو».. نداء إلى الرئيس
إذا كان القانون 96 لعام 1992 والتنفيذ الأمنى العنيف له، هو أحد علامات الظلم الاجتماعى للفلاحين فى عهد مبارك، فإن مصر بعد ثورتين على الظلم الاجتماعى بحاجة لإزالة بقايا آثار ذلك التطبيق الفظ. فقد تعرض بعض الفلاحين لأحكام قضائية بالسجن نتيجة دفاعهم المشروع عن أراض حصلوا عليها من الدولة ودفعوا ثمنها وقاوموا محاولة بعض الإقطاعيين العائدين مع القانون لتجريف الزراعات التى كانت موجودة بها. وقد حصل الفلاحين فى "سراندو" التى تعد نموذجا على تجاوزات عهد مبارك بحق الفلاحون، على البراءة ما عدا أربعة منهم. ومن بين هؤلاء الأربعة طالب بالجامعة ضاع مستقبله العلمي، وآخر مسن تعرضت عائلته لظروف قاهرة بعد سجنه وتسرب ابنائه من التعليم. وهؤلاء بحاجة إلى تدخل رئاسى كريم للإعفاء من باقى العقوبة التى جاءت إثر دفاع عن الحق فى الحياة.