كلما ظهر نصاب جديد فى صورة شركة لتوظيف الأموال تجرى مناقشة الظاهرة وأسبابها، ورغم ذلك تعود الظاهرة من جديد. ولا يقتصر الأمر على بلد مثل مصر، بل إن بلدا مثل الولايات المتحدة به سوق مالية متقدمة، يشهد قضايا نصب مشابهة وبأحجام عملاقة مثل قضية مادوف التى ظهرت بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 وخلفت نحو 50 مليار دولار أى نحو 380 مليار جنيه من الأموال المنهوبة.
وفى كل مرة يكون هناك إجماع على أن النصاب لا يمكنه أن يصطاد سوى الطماعين الذين يتجاهلون المنطق جريا وراء وهم الحصول على أرباح أو عوائد ضخمة لا علاقة لها بالمنطق أو بمستويات الربح السائدة فى الاقتصاد المشروع. ورغم ذلك فإن النصاب يستطيع اصطياد ضحايا جدد أحيانا بسبب الجهل وغالبا بسبب الطمع، ودائما بسبب وجود خلل فى السياسات المالية والنقدية التى تدفع حائزى الأموال إلى الاتجاه إلى تلك الشركات بدلا من الإيداع الخاسر فى الجهاز المصرفي.
وإذا كانت قضية النصاب الجديد الذى نهب أموال المواطنين تحت مسمى توظيفها فى بعض محافظات جنوب مصر قد أعادت فتح القضية، فإنه من المهم تأملها لتفادى تكرار حدوثها مجددا كما يحدث كل فترة للأسف.
ويتصور البعض أن الطمع فى العوائد الأعلى التى توهم تلك الشركات ضحاياها بأنها ستقدمها لهم، هو السبب الوحيد فى توجه بعض المواطنين بمدخراتهم إليها، لكن هناك العديد من العوامل التى ربما تكون أكثر أهمية، تتعلق بضعف وضحالة الثقافة الاستثمارية فى دولة لا تبذل أى جهد تعليمى وثقافى لبناء مثل هذه الثقافة، بل تترك ثقافة الربح دون عمل تنتشر بشكل خبيث فى المجتمع الذى تسيطر القطاعات الطفيلية على جزء مهم من اقتصاده. كما تتعلق أيضا بكفاءة الجهاز المصرفى ومدى تنوع الأوعية الادخارية التى يقدمها للمدخرين. كما أن سياسة سعر الفائدة وعلاقتها بمعدل التضخم ربما تعد السبب الأكثر أهمية فى تحديد جاذبية الادخار فى الجهاز المصرفى بالمقارنة مع شركات توظيف الأموال.
وهناك سعر فائدة إسمى وهو سعر الفائدة المعلن فى الجهاز المصرفي، وسعر فائدة حقيقى هو سعر الفائدة الإسمى مطروحا منه معدل ارتفاع أسعار المستهلكين (مؤشر معدل التضخم). ومن المؤكد أن سعر الفائدة الحقيقى هو الأكثر أهمية وتأثيرا على ظاهرة شركات توظيف الأموال. ولتبسيط الموضوع سنفترض أن مواطنا لديه مائة جنيه وكان لديه خيار أن يشترى بها سلعة سعرها مائة جنيه، أو يودعها لدى الجهاز المصرفي. وقرر المواطن فى النهاية إيداعها لدى الجهاز المصرفى بفائدة 9% على سبيل المثال، ثم مر عام وسحب مدخراته وفائدتها أى 109 جنيهات، وقرر أن يشترى نفس السلعة التى كان ثمنها 100 جنيه منذ عام، ووجد أن سعرها أصبح 115 جنيها نتيجة التضخم، فهذا يعنى أن القدرة الشرائية لمدخراته وفائدتها أصبحت أقل من القدرة الشرائية لأمواله منذ عام، أى أن قيمتها الحقيقية انخفضت وتآكلت. وهذا يعنى أن الفائدة الحقيقية عليها سلبية.
والحقيقة أن سعر الفائدة فى مصر فى الوقت الراهن يقل عن معدل التضخم، بما يعنى عمليا أن الأموال التى يتم إيداعها فى الجهاز المصرفى تفقد جزءاً من قدرتها الشرائية ولا تتزايد قيمتها الحقيقية بل تتراجع مع مرور الزمن. وعندما يكون سعر الفائدة سلبيا على هذا النحو، فإنه يشكل عنصرا منفرا من الادخار فى الجهاز المصرفي، وبالتالى يبدأ حائزو الأموال فى التفكير فى قنوات أخرى للاستفادة من أموالهم. وفى ظل افتقاد صغار ومتوسطى وحتى بعض كبار المدخرين للخبرات فى مجال الاستثمار المباشر فى الاقتصاد الحقيقي، فإن البحث يتوجه نحو من يستثمرها لهم سواء فى البورصة أو فى شركات توظيف الأموال، أو يتم استخدامها فى الاستثمار العقارى السهل نسبيا بما يشعل أسعار العقارات والأراضى بصورة عشوائية بلا منطق أو عقل.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن متوسط معدل التضخم قد بلغ 16.2%، 11.7%، 11.1%، 8.6%، 6.9%، 10.1% فى الأعوام 2009، 2010، 2011، 2012، 2013، 2014 على التوالي. وتشير التقديرات إلى أنه سيبلغ نحو 13.5% فى العام الجارى 2015 وفقا للبيانات الرسمية المصرية المنشورة فى تقرير آفاق الاقتصاد العالمى الصادر عن صندوق النقد الدولي. وباستثناء عام 2013، فإن معدل التضخم كان أعلى من سعر الفائدة فى كل تلك الأعوام المذكورة أعلاه. وهذا يعنى أن سعر الفائدة الحقيقى كان سلبيا منذ عام 2007 وحتى الآن باستثناء عام 2013، وأن الادخار فى الجهاز المصرفى كان يعنى تآكل القدرة الشرائية لأموال المدخرين.
وذلك الوضع يشكل محفزا لأصحاب الأموال للبحث عن أى توظيف آخر لأموالهم. واتجهت بعض الأموال إلى البورصة الضعيفة الضوابط فتعرضت لنكسات متتابعة. كما توجه جزء كبير من الأموال إلى شراء الأراضى والعقارات كمخزن للقيمة وليس كحاجة حقيقية للاستخدام بما يشكل تجميدا لجزء مهم من الأموال وإخراجها من معادلة التنمية الصناعية والزراعية والخدمية المطلوبة لتطوير اقتصاد مصر ومستويات معيشة شعبها، كما يتجه البعض لشركات توظيف الأموال رغم تكرار الصدمات التى يتعرض لها المدخرون فيها من النصابين الذين يديرونها خارج إطار القانون.
وللعلم فإن ظاهرة شركات توظيف الأموال القديمة التى ارتدت ثوبا دينيا، ووظفت أموال المدخرين فى أنشطة متنوعة منها أنشطة غير مشروعة ومدمرة للاقتصاد والمجتمع، فضلا عن دعمها للقوى الدينية المتطرفة، ظهرت وتوحشت حينما أصبح سعر الفائدة سلبيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وهو ما يؤكد أن هذه الفائدة السلبية أحد الأسباب المهمة لنشوء وتطور ظاهرة شركات توظيف الأموال النصابة التى تتاجر بأحلام الناس أو بالأحرى بأوهام الطامعين فى ربح سريع بلا عمل وبلا منطق.
وقد اعتمدت شركات توظيف الأموال القديمة على استغلال الدين لتقديم نفسها للمصريين العاملين فى الخارج ولجانب مهم من المدخرين فى الداخل، على أنها نموذج للاستثمار الإسلامي. وقد تمكنت من كسب ثقة المدخرين الذين أودعوا أموالهم فيها بمساعدة الصحف القومية والتليفزيون وبعض كبار رجال الدين الرسميين وغير الرسميين فى واحدة من أسوأ عمليات التجارة الرخيصة والمبتذلة بالدين واستغلاله فى تبرير الخيارات الاقتصادية السيئة لدرجة الاحتيال والنصب. ومن يراجع الإعلانات الصحفية والتليفزيونية لتلك الشركات فى ثمانينيات القرن العشرين سيصدم بمشاركة الكثيرين ممن يعتبرهم الجمهور رموزا دينية فى الترويج والإعلان لتلك الشركات مقابل أموال دون النظر للكوارث التى تسببت فيها للمواطنين والتى ساعدوا على استفحالها باستغلال ثقة المواطنين البسطاء فيهم.
وكل ذلك تم فى ظل تغاضى حكومى عن مخالفاتها بسبب تورط بعض الرموز الحكومية والقيادات الإعلامية فى إيداع مدخراتهم لدى تلك الشركات الفاسدة التى قدمت لتلك القيادات معدلات ريع استثنائية ضمن ما سمى بكشوف البركة آنذاك.
وتعرضت تلك الشركات لهزة عنيفة عندما حدثت أزمة أسواق المال العالمية عام 1987 وعندما تدهورت أسعار الذهب بشدة، حيث كانت تستثمر جزءا من الأموال المتاحة لها فى الذهب وأسواق المال، فضلا عن الشبهات التى حامت حول ضلوعها فى نشاطات الاقتصاد الأسود المتنوعة. كما شاركت تلك الشركات «الدينية» والتى أسهم كبار رجال الدين الرسميين وغير الرسميين فى الترويج لها، فى المضاربة على العملات وهو نوع من القمار الصريح الذى تمنعه الدولة المصرية فى الداخل ولديها كل الحق فى ذلك. وعلى أى الأحوال فإن تلك الشركات انهارت كأنها فقاعة وخلفت وراءها مدخرات ضائعة بمليارات الجنيهات وقضت على جزء مهم من رصيد الطبقة الوسطى وبالذات الذين كانوا يعملون فى الخارج.
ولم يكن الإشراف الحكومى على تصفية أصول تلك الشركات لرد أموال المدخرين لديها يتسم بدرجة مقبولة من الكفاءة والشفافية فأكمل منظومة تبديد ونهب أموال المودعين وإكمال صورة المأساة المالية المروعة التى تعرضوا لها وأضاعت مدخراتهم بسبب الجرى وراء معدلات الربح غير المنطقية طمعا فى ربح غير معقول، وبسبب التجارة الرخيصة بالدين التى سهلت خداعهم من خلال شركات ترفع راية الدين وتستأجر بعض رجال الدين للإعلان لها.
وكانت معدلات التضخم المرتفعة قد تجاوزت سعر الفائدة وأدت إلى إفقاد المدخرات فى الجهاز المصرفى لجانب كبير من قدراتها الشرائية، حيث كانت معدلات الفائدة فى الفترة من 1986 حتى عام 1990، تقل كثيرا عن معدل التضخم السائد فى مصر، بما يعنى أن سعر الفائدة الحقيقي، كان سلبيا، حيث بلغ سعر الفائدة الاسمى 13% خلال الفترة من عام 1986 حتى عام 1988، وارتفع إلى 14% خلال عامى 1989، 1990، وبالمقابل بلغ معدل التضخم فى أعوام 1986، 1987، 1988، 1989، 1990 على التوالي، نحو 23.9%، 19.7%، 17.7%، 21.3%، 16.8% بالترتيب. وهذا يعنى أن سعر الفائدة الحقيقى فى مصر كان سلبيا وبلغ نحو 10.9%، - 6.7%، - 4.7%، - 7.3%، - 2.8% فى أعوام 1986، 1987، 1988، 1989، 1990 على التوالي. وبالتالى فإن سياسة سعر الفائدة أوقعت أضرارا كبيرة بالمدخرين فى ظل فشل السياسة المالية فى السيطرة على التضخم. وكان «منطقيا» أن تظهر شركات توظيف الأموال فى تلك الظروف.
وفى الوقت الحالى يتكرر نفس الأمر بوجود أسعار فائدة تقل كثيرا عن معدل التضخم، لذا فمن الطبيعى أن يتدنى معدل الادخار المحلى إلى نحو 5.2% وهو قرابة خمس معدل الادخار فى الدول الفقيرة، ونحو سدس معدل الادخار فى دول الدخل المتوسط وقرابة تسع معدل الادخار فى دولة مثل الصين. باختصار هذا المعدل للادخار هو عار قومى ولا يمكن أن تبنى عليه أى نهضة اقتصادية. وأحد أهم أسباب هذا التدنى لمعدل الادخار هو وجود سعر فائدة سلبى بسبب ارتفاع معدل التضخم عن سعر الفائدة.
وتعتمد السياسة النقدية الراهنة والمستمرة من عهد مبارك أو منذ ما يقرب من عشرة أعوام، على خفض سعر الفائدة بغرض إنعاش الاقتصاد المصرى من خلال تشجيع رجال الأعمال على الاقتراض بأسعار إقراض منخفضة، لتمويل بناء مشروعات جديدة تؤدى لزيادة الناتج وخلق فرص عمل جديدة، لكن هذه السياسة تفقد فعاليتها إذا كان معدل التضخم أعلى من سعر الفائدة كما هو حادث فى الواقع فعليا، وتتحول إلى سبب للمضاربات العبثية على الأراضى والعقارات، وإلى مبرر لظهور شركات توظيف الأموال الخارجة على القانون.
والحقيقة أن مستوى كفاءة الجهاز المصرفى فى إدارة الائتمان، وتركيزه على الضمانات الورقية وليس متابعة وإنجاح المشروعات الممولة من البنوك كضمانة أهم للسداد، وتركيزه على شراء سندات وأذون الخزانة ذات المعدلات المرتفعة للعائد، يحد من قدرة الجهاز المصرفى على التوظيف الفعال للسياسة النقدية التوسعية المتمثلة فى خفض أسعار الفائدة، وهذا يعنى أن هذه السياسة النقدية لم تحقق هدف إنعاش الاقتصاد من جهة، وأدت إلى تراجع معدل الادخار بصورة مزرية من جهة أخرى.
وهذه الظاهرة لن يكون بالإمكان مواجهتها سوى بالالتزام بإبقاء سعر الفائدة موجبا وأعلى من معدل التضخم الحقيقي، بما يشجع على الادخار فى الجهاز المصرفى وعدم الانسياق وراء الأوهام التى تبيعها شركات توظيف الأموال. كما أن مقاومة ظاهرة عودة شركات توظيف الأموال تتطلب تطوير الأوعية الاستثمارية المتاحة لدى صناديق الاستثمار فى البنوك، والتوسع فى تقديم القروض للمشروعات الصغيرة والتعاونية مع توفير الرعاية الفنية لها لضمان نجاحها. كما تتطلب مكافحة التضخم من خلال سياسات تقوم على حماية حقيقية للمنافسة ومنع الاحتكار الذى يعد أحد أهم أسباب ارتفاع الأسعار بدون مبرر حقيقي. كما أن هناك ضرورة لضبط أسعار السلع المحلية وربطها بتكاليف الخامات والعمالة المحلية، وضبط أسعار السلع المستوردة التى تقارب ثلث الناتج المحلى الإجمالى بشكل توافقى مع اتحادات الغرف التجارية أو حتى من خلال تحديد معدلات ربح رقمية للمستوردين كنسبة من سعر أى سلعة مستوردة للقضاء على استغلالهم للمستهلكين بصورة خالية من العدل ولوقف إضرارهم بضرورات توسيع السوق. وإجمالا هناك الكثير مما يمكن عمله كإجراءات اقتصادية ومالية ونقدية، لكن تلك الإجراءات لابد وأن تتوافق مع بناء ثقافة استثمارية قائمة على العمل والعلم والقبول بمعدلات ربح معتدلة حتى ننهى الأساس الثقافى للظهور المتكرر لشركات توظيف الأموال النصابة التى تستغل أمراض الطمع الغبى وأوهام الربح دون عمل.