«عار بورما» الحقد يتجاوز كل الحدود

«عار بورما».. الحقد يتجاوز كل الحدود

«عار بورما».. الحقد يتجاوز كل الحدود

 تونس اليوم -

«عار بورما» الحقد يتجاوز كل الحدود

بكر عويضة

بدءا، الشطر الأول من العنوان ليس لي، لذا حرصت أن يرد بين أقواس تضمين. في التفصيل، أنني أردت التقاط الأنفاس من مشاهد فظائع قتل الأنفس وتدمير البنيان في قطاع غزة، فالتقطت العدد الأخير من مجلة «تايم» الموضوع جانبا مذ وصلني السبت الماضي. صفحة الفهرس أعطتني فكرة موجزة، لكنها لم تهيئني لصدمة كانت تنتظرني. على اتساع صفحتين كاملتين صفع نظري منظر عبد القادر (65 سنة) يفترش الأرض وقد أطل من عينيه هلع عبر مباشرة إليّ، كأنما صرت محله، وإذ ارتفع بصري نحو «المانشيت» أعلى الصفحتين زعق عنوان بالفنط العريض: «عار بورما»، ثم أوضح سطر لاحق التفاصيل فشرح أن عبد القادر واحد بين ما يتجاوز مائة وأربعين ألف إنسان من المسلمين في بورما، الذين أُكرهوا على النزوح من بيوتهم لينتهوا مشردين بمعسكرات تجذّر فيها المرض واليأس.
المجلة الأميركية، إحدى قلائل كبريات الصحافة الأسبوعية العالمية، حيث إذا تعلق الأمر بحالة إنسانية فلا يزال لموضوعية التغطية الصحافية مكانها المتميز، من دون تمييز بين أعراق أو أديان، بين إنسان وآخر، خصصت عشر صفحات لمشاهد صادمة التقطتها كاميرا جيمس ناشتوي (JAMES NACHTWEY)، عكست حالة بؤس مروّعة يعيشها لاجئو معسكرات مسلمي ميانمار، أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها بالفعل «عار» يلوّث نياشين طغمة عسكرية تتوارث حكم بورما منذ ما يقرب من نصف قرن. تعقيبا على صور ناشتوي كتبت هانا بيتش (HANNAH BEECH) أنها عندما زارت قبل خمس سنوات مدينة سيتوي (SITTWE) غرب بورما، لاحظت كيف يتجاور في السوق بائع خضار بوذي مع صياد مسلم، بل إن كاهنا بوذيا وإماما مسلما همسا لها أنهما معا يعارضان الحكم العسكري في بورما. اليوم، المدينة ذاتها تعيش حالة فصل عنصري كامل.
أين المهرب إذن؟ لا أعني فقط معاناة مسلمي بورما، إنما إلى أين يفر الإنسان من ظلم أخيه الإنسان؟ وممّ يولد الظلم؟ لست أضيف هنا شيئا غير معروف، الكل يعلم أنه مثلما هناك حاجة لموّلد كهربائي، كذلك هو ظلم البشر بعضهم بعضا بحاجة إلى تفعيل يحركه، فإن هو في حال رقاد يوقظه، أو كان يمر بخمول ينشطه، كما تفعل الكيماويات في أي اختبار معملي. الحقد يؤدي دور موّلد ظلم بشر للبشر، وهو ليس بحاجة لتأشيرة دخول، بل هو عابر للقارات، متجاوز للحدود، لا يقف عند لون، ولا الدين هو سقف له، بل اللون، العرق، الدين، أو قل كلها معا، عباءات بها يتسربل، لكي يلد ظلمات ظلم تفقّس هي أيضا المزيد من حقد الإنسان ضد الإنسان. المشكل أن الكل يعلم هذا، لكن واقع الحال يقول إن السواد الأعظم من الناس يتجاهل، أما الأخطر فهو أن يتغافل معظم العارفين بخطورة الأمر، خصوصا بين أولي العلم، عن التصدي بنور المعرفة لأخطار ظلمات الأحقاد. ألا يعلم هؤلاء أن بذرة الحقد إذا بُذرت في تربة ما، فليس ثمة ما يضمن أن نَبْتَ شرورها لن تتسلل جذوره لتنبُت أشجارا تنتشر في ترُب كثيرة مجاورة، وأن حريقها إن طال بيتا في حارة سوف يتمدد الشرر، عاجلا أو آجلا، لينال بيوتا بحوارٍ كثر، لا أحد يدري أيّهن هي الأولى، وإلام يؤول المنتهى؟ بلى يعلمون، ولكن أكثرهم يتغافلون.
ترى، لئن كان حقد عنصري أصاب بوذيين فتسبب في بؤس مائة وأربعين ألف مسلم بورمي في إقليم روهينغا جعل «تايم» تصرخ: «عار بورما»، فما يكون الوصف الأنسب لحقد أوصل عشرة ملايين و800 ألف سوري إلى أشد حالات البؤس، إلى حد أوجب حاجتهم إلى رعاية دولية داخل بلدهم؟ الأرجح أن وصف «عار» دون مستوى توصيف درجات الحقد التي فتتت سوريا وقسمت السوريين. ولا يختلف الحال كثيرا عن مناطق عدة تصول الأحقاد فيها وتجول تحملها رياح الظلم وأعاصير القتل والتدمير. ها هو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يطالب بحماية دولية للفلسطينيين إزاء تجاوز الرد الإسرائيلي على استفزازات «حماس» للحدود والأعراف الدولية. وها هي حكومة ليبيا المصابة بنصف شلل، تفكر هي أيضا بطلب نجدة دولية تنقذ الليبيين من أحقاد ميليشياتهم. ومع إمكانية تفهم أن غليل صواريخ حماس، حتى لو لم تصب بمقتل أي أحد بينما يتزايد قتلى الفلسطينيين، قد يشفي الصدور التي تعتمل بالغضب، فإنه كيف يمكن تفهم أن يقصف ليبيون بعضهم بعضا بصواريخ «غراد» في مطار طرابلس فيزهقوا أنفسهم ويحرقوا معظم طائرات بلدهم؟ وماذا عن بلاد الرافدين، إلى أين سينتهي نعيق الحقد هناك؟ هل بقي ثمة أمل أن يبقى العراق وفيا لتراث إنساني عرفه مذ كان مهد حضارات في ظلالها تعايشت أعراق وأديان، وتلاقحت في أروقة مناراته ثقافات فأمدت البشرية بإرث معرفة لا يزال وهجها مشعا؟
ذلك حصاد بضع سنين سبقتها أعوام من آلام ما فعل الحقد بالجسم العربي، إن بأطرافه، على تخومه، أو في القلب منه. هل من الضروري التذكير بما فعل جزائريون بالجزائر والجزائريين، وما جرى لمصر والمصريين بأيد مصرية، وما فعل سودانيون بالسودان من دارفور إلى جوبا، أو ما أدمى لبنانيون به لبنان من صيدا مرورا ببيروت وصولا إلى طرابلس؟ وهل لا بد من استحضار ما مارس الرفاق في حواري عدن من مجازر بحق أنفسهم، وما نجت أحيانا عائلاتهم، أو نزيف خناجر القبائل إذ تصهل بالثأر أن «لا بدّ من صنعاء ولو طال السفر»؟ ماذا يكون الحقد الذي ولّد «عار بورما»، على فظاعة بشاعته، أمام ما فعلت أحقاد عرب ومسلمين بالجسم العربي والعالم الإسلامي طوال عقود، وليس منذ بضع سنين فقط؟ لا أدري، لكنني أستحضر من زمن الصبا السياسي/ الفكري، كيف أنني صمتُ فلم أتحد مقولات من نوع: «الحقد النبيل يفجر الثورة». كيف يُعطى «الحقد» صفة «النبل»؟ كلا، الحقد هو الحقد، ولا يمكن أن يلد سوى ظلمات الظلم.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«عار بورما» الحقد يتجاوز كل الحدود «عار بورما» الحقد يتجاوز كل الحدود



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia