عريب الرنتاوي
وجّه أكراد تركيا أصابع الاتهام لحكومة بلادهم وحمّلوها بأقدار متفاوتة، المسؤولية عن الهجوم الإرهابي في بلدة سروج القريبة من الحدود مع تركيا، ذات الغالبية الكردية، والذي أودى بحياة أكثر من ثلاثين شاباً وفتاة ... هذا الاتهام، ينطوي على قدر كبير من الانفعال و”التسييس”، فالهجوم الإرهابي يليق بـ “عصابة إجرامية”، وليس بحكومة منتخبة، حتى وإن كانت من طراز الحكومات الأخيرة للسيد رجب طيب أردوغان.
حكومة أوغلو، أو على نحو أدق، حكومة أردوغان، حمّلت “داعش” المسؤولية عن الجريمة النكراء، وقد كشفت عن هوية منفذها، فيما عمليات البحث جارية عن بقية أفراد الشبكة/ الخلية المتورطة بهذه الفعلة، لأن من المؤكد أنها لم تكن من عمل رجل واحد، سيما وأنه فتى في مقتبل العمر، لم يمض وقتاً يزيد عن بضعة أشهر، في صفوف أعنف التنظيمات الجهادية.
من دون شماتة من أي نوع، بل وبكل مشاعر الأسف، نقول إن ما جرى في البلدة الحدودية، ليس سوى ضربٍ من ضروب “انقلاب السحر على الساحر” ... فتركيا التي استمرأت “توظيف” الإرهاب في حربها على سوريا، تجني اليوم أسوأ العواقب وتحصد أمر الثمرات، لما زرعت خلال أزيد من عامين مضيا ... وتلك لعمري، ليست الحكاية الأولى، التي تروي قصصاً تراجيدية عن “انقلاب السحر على الساحر”، لكن من يتعلم؟!
لم تبق دولة في العالم، بمن في ذلك أصدقاء تركيا وحلفائها في منظمة “حلف شمال الأطلسي”، إلا وأسدى النصح لأنقرة بالكف عن “التآمر/ التواطؤ/ غض الطرف/ تشجيع/ تيسير” مهمة داعش ... أكثر من نصف الشعب التركي، قال شيئاً مماثلاً لحكومة بلاده، عبر الناطقين باسمه من كتاب وأحزاب وإعلاميين وأكاديميين ... لكن حكومة أردوغان /أوغلو، أدارت أذناً من طين، وأخرى من عجين، لكل هذه الأصوات، مكتفية بتصريحات النفي وبيانات التنديد بـ “المؤامرة” و”المتآمرين”، التي لم تقنع صديقاً ولم تردع عدواً ... مضت أنقرة في غيّها وعنادها، ظناً منها، أن “الأفعى” لن تلدغ صاحب الحضن الدافئ الذي آواها ... أنقرة لم تتعلم من دورس غيرها ... أنقرة قررت أن تدفع الثمن من كيسها، وأي ثمن؟!
اليوم، يزداد المشهد التركي تعقيداً على تعقيداته القائمة ... ويواجه أردوغان وحزبه وحكومته وأحلامه الإمبراطورية، تحديات تطاول غرف نومهم، بعد أن ظلوا مطمئنين لحروب الوكالة التي يخوضونها على الأرض السورية، وفي الحدائق الخلفية البعيدة عن القصر الأبيض “آق سراي” ... اليوم، يدخل الإرهاب كتحدٍ آخر، يواجه الدولة التركية زمن العدالة والتنمية، إلى جانب تحديات “تراجع النمو” و”تآكل الدور” و”تفاقم المسألة الكردية”، فضلاً عن نشوء “مسألة علوية”، بوصفها نتائج طبيعية وتداعيات كانت مرجحة لسياسات داخلية وخارجية، اتسمت بـ”القطع” و”القطيعة” مع “سيناريو الازدهار” الذي ميّز العشرية الأولى من تجربة العدالة والتنمية في الحكم.
على أية حال، لم تكن مسألة “ارتداد” داعش على حلفائها، أمراً خاضعاً للنقاش من قبل الخبراء الذين تابعوا جدياً تجربة “السلفية الجهادية” منذ أفغانستان حتى اليوم ... الخلاف بين هؤلاء انحصر في “توقيت” هذا الانقلاب ... ولقد كشفت مصادر جهادية، أن استهداف تركياً، كان مشروعاً مبكراً لدى البغدادي، حتى أنه طلب من أحد مساعديه، الذي سيصبح ذات يوم، خصمه اللدود: أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة وأميرها، أن يتهيأ بالسيارات المفخخة والأحزم الناسفة و”الاستشهاديين” لضرب الطاغوت في أنقرة، كان ذلك قبل الانشقاق الدامي بين “المجاهدين”، بل وقبل أن تتحرك جحافل من سيصبح “خليفة المسلمين” و”أمير المؤمنين” إلى سوريا ... ها هي “الآزفة” أو لحظة “الجهاد الأكبر” في تركيا وقد أزفت، وها هو صاحب الطموح السلطاني يدفع ويُدفّع بلاده، الأثمان الباهظة لسياسات وأحلام توسعية خرقاء، حتى أنه صار كالمنبت، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
والحقيقة أننا لا نستكثر على الأتراك، أن يكونوا قد توقعوا شيئاً من قبيل ما حصل في بلدة سروج ... فلديهم استخباراتهم القوية ومراكز أبحاث نشطة، و”دولة عميقة” لم تضعف بيروقراطيتها ولم تهن عزيمتها مر السنين... لكن أحلام السيد أردوغان، كانت أكبر وأقوى من جميع هذه المؤسسات ... وطالما أن إسقاط الأسد في دمشق، وقطع الطريق على قيام كيان كردي في شمال سوري، هي أهداف لا رجعة عنها ولا محيد عند الرجل الذي اشتهر بعناده وجموحه، فإن كل الوسائل مبررة، بما فيها أقذرها: الاعتماد على داعش.
ولقد كانت تجربة “العشق الممنوع” بين “الإسلام العلماني/ الديمقراطي/ المدني” من جهة و”السلفية الجهادية” في طبعتها الأكثر دموية، الداعشية من جهة ثانية، هي نهاية حقبة وبداية أخرى في التاريخ التركي المعاصر ... انتقلت خلالها تركيا من موقع “النموذج” إلى موقع “الرجل المريض” ثانية ... ومن القوة الناعمة، إلى أبشع أشكال التدخل الاقتحامي الخشن ... ومن صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء ... ومن خطاب مدني ديمقراطي جامع، إلى ناطق بلسان الإسلام الراديكالي السني ... وغني عن التأكيد، أن من يفعل ذلك، عليه أن يتحضر لأسوأ العواقب وأوخم السيناريوهات، كتلك التي أطلت برأسها من صناديق الاقتراع الأخيرة وساحتي تقسيم وجيزي ومن تحت أنقاض التفجير الإرهابي في سروج ومن أعلى قمم جبال قنديل.
تركيا التي كانت سعيدة ذات يوم، بـ “تدريس” نموذجها الخاص وتعميمه، وجدت نفسها في لحظة استعصاء على التعلم من تجارب الأقربين والأبعدين ... تركيا تدفع اليوم، ثمن هذا الاستعصاء.