”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا”

”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا”

”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا”

 تونس اليوم -

”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا”

فاطمة ناعوت*
بقلم : فاطمة ناعوت*

“جريما” مكتملةُ الأركان، يتمُّ ارتكابُها الآن يوميًّا على خشبة «مسرح الريحانى» العريق فى شارع عماد الدين بوسط البلد، على يد الكوميديان الكبير «أشرف عبدالباقى» وفريقه المسرحى. وليس من خطأ إملائى فى كلمة «جريما»، فهكذا كُتبت على الأفيش، تحت عنوان العرض المسرحى: «مسرحية كلها غلط»، لكى تكتملَ أركانُ «الجريمة الكاملة» التى تنهج «فلسفة الأخطاء». ساعتان من «الأخطاء الفنية» المقصودة، والمصنوعة بحِرفية عالية ودقّة وانضباط وتزامن مُتقن حتى تخرج للمشاهدين على هذا النحو الكوميدى المدهش. (حين تكون الأخطاءُ متقنةً؛ على نحو لا خطأ فيه)، فيكون الخطأُ هو المتن، ويغدو تصحيحُ الخطأ جزءًا أصيلًا من صناعة الخطأ القادم.

الديكور يتهاوى أثناء العرض، فيعيد الممثلون تركيبه، أثناء التمثيل، ويفقد بعضُ الممثلين الوعى جراء سقوط قطع الأثاث فوق رؤوسهم، فيتم استبدالهم فورًا بآخرين لا يحفظون الدور، فيدخلون خشبة المسرح حاملين أوراق النَّصّ ليقرأوا منه، ويتداخلُ الحوارُ مع السيناريو، فتحدث المفارقاتُ الفوضوية التى تبنى جسدَ العرض على أعمدة مدرسة «كوميديا الأخطاء». وربما تذكّرنا العبارةُ بإحدى مسرحيات وليم شكسبير التى كتبها فى بدايات القرن السادس عشر تحت نفس الاسم: Comedy of Errors التى تطرح السؤالَ الوجودىَّ الأشهر: «هل إدراكُنا لذواتِنا يتطابق مع إدراك الآخرين لنا؟»، لنخرج بالحكمة الإغريقية الشهيرة: «اعرف نفسَك».

مسرحية «جريما فى المعادى» مستوحاة من المسرحية البريطانية The Play that Goes Wrong التى كتبها هنرى لويس، جوناثان ساير، وهنرى شيلدز، وترجمتها للعربية «نادية حسب الله». اشترى حقوقَها الفكرية، وقام بتمصيرها وإخراجها وتدريب الممثلين على أدائها الحركى الصعب: النجمُ «أشرف عبدالباقى»، ليكسر بها الشرنقة النمطية التى يدور فيها المسرحُ المصرى والعربى منذ عقود طوال، ويقدّم لنا عرضًا مسرحيًّا طازجًا من «خارج الصندوق» يجعلنا نفكّر كيف تتفجّرُ الكوميديا من جسد الفوضى الفنية المدهشة ومحاولات إصلاح «الأخطاء»، على مرأى من المشاهدين، فإن كان «بريخت» قد تكلم عن «كسر الحائط الرابع» الوهمى بين الممثلين والمشاهدين، وإدماج المشاهدين فى متن العرض، فقد صنعت «جريما فى المعادى» العكسَ، حين «أوهم» الممثلون أنفسَهم بأن ذلك الحائطَ الرابعَ المتخيَّلَ: موجودٌ و«مُصمتٌ»؛ وكأن المشاهدين لن ينتبهوا إلى الفوضى الحادثة على خشبة المسرح من انهيار قطع الديكور وخروج الممثلين عن النص، فتتفجّر الكوميديا ويتورط المشاهدون مع الممثلين فى ملحمة كوميديا الأخطاء، فينتظروا الخطأ القادم، ثم الذى يليه، حتى يكتملَ نسيجُ الأخطاء الفنية المدروسة بعناية والمصنوعة بدقة فائقة وتوازن حركى بصرى محكم؛ بعد تدريبات هائلة ومكثفة على فن «صناعة الخطأ». هنا يبرز السؤالُ السقراطى من جديد: «اعرفْ نفسك!» على لسان حال الممثلين: «هل يرانا المشاهدون كما نحن عليه من فوضى، أم كما نريدُ نحن أن يرونا عليه بعد محاولات إصلاح الفوضى؟».

نجح «أشرف عبدالباقى» فى توظيف جميع أفراد طاقم العمل، بمَن فيهم مهندسو الصوت والإضاءة والديكور ومصممو الملابس وفنانو الـBackStage، بالإضافة إلى نجوم العرض، ليعزفوا معًا «سيمفونية الأخطاء الجميلة»، حتى خرجت للمشاهدين وقد أضحى «نشازُها» فنًّا رفيعًا.

“مسرحية كلها غلط، جريما فى المعادى” تُقدّم الآن، وعلى مدى الشهور القادمة بإذن الله، على خشبة «مسرح الريحانى» العريق، الذى أعاده للحياة عاشقُ المسرح «أشرف عبدالباقى» وفريقُه؛ بعدما تحول مع السنوات والنسيان إلى ركام وأطلال خربة، ليغدو اليومَ قطعة معمارية متلألئة بالنور والحياة والفن الرفيع. شاهدتُ المسرحية أمس الأول مع أسرتى، وبعد العرض جلسنا مع النجم ساعةً للحديث، فاكتشفتُ فيه عاشقًا مُتيّمًا بفن المسرح، وليس نجمًا كوميديًّا ومخرجًا كبيرًا وحسب. اشترى «أشرف عبدالباقى» مسرحًا كاملًا متنقلًا، سوف يجوبُ به قرى مصرَ ونجوعَها، لكى يصل بهذا الفن العظيم إلى كل شبر من أرجاء المحروسة، من خارج العاصمة. المسرحُ مدرسة نتعلّم فيها ما فاتنا أن نتعلمه على مقاعد المدرسة. لهذا قال قسطنطين ستانيسلافسكى، قبل قرنين: «أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا». طوبى لصُنّاع الفنون الراقية لأنهم يساهمون فى بناء الأوطان. “الدينُ لله، والوطن لمَن يحترم فنونَ الوطن” (المصري اليوم)

tunisiatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا” ”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا”



GMT 11:32 2021 الخميس ,15 إبريل / نيسان

صندوق أسرار الزمن المعتّق

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:21 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجدي الخميس 29-10-2020

GMT 14:05 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الأسد الخميس 29-10-2020

GMT 08:29 2021 الجمعة ,07 أيار / مايو

مسلسل ''حرقة'' أفضل دراما رمضانية في تونس

GMT 05:48 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

اكتشاف تقنية جديدة تساعد في إنقاص الوزن الزائد

GMT 05:31 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

البردقوش فوائده واستخدامه

GMT 00:15 2016 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد الشطة لعلاج مرض الصدفية

GMT 10:54 2013 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ندوة عن القبول في جامعات الولايات المتحدة في "أميركية دبي"

GMT 09:15 2021 الأربعاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أيتام «داعش» مَنْ يعينهم؟
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia