القاهرة - تونس اليوم
على ضفاف النيل بالقرب من المتحف المصري وسط القاهرة، وفي نهار شتوي من شهر شباط الفائت، التقى خمسة من المعماريين المصريين، تربطهم روح العمل الجماعي، ويجمعهم الانتماء للمكان والبيئة، التي قرروا إثرائها بتصميم معماري مُستوحى من روح المكان وأشخاصه العاديين، وبعزيمة المغامرين، بدأت رحلتهم من هذا المكان ليقتنصوا بعد عشرة أشهر جائزة معمارية دولية مرموقة، تقدمها "مؤسسة تميز".وفي 29 ديسمبر الفائت، أعلنت "مؤسسة تميز" أسماء الفائزين بجائزة رفعت الجادرجي 2020، وهي جائزة سنوية تحمل اسم المهندس والأكاديمي العراقي الدكتور رفعت الجادرجي.
وجاءت أسماء الفريق بحسب "مؤسسة تميز"، كالتالي: علي خالد عليوة، مصطفى أحمد زكريا، شريف خالد عبد الخالق، ابتسام محمد أحمد الجيزاوي، وهدى عصام عبد المولى.في حين ذهبت الجائزة الثانية لفريق من أربعة أعضاء من كل من الولايات المتحدة والعراق، والمركز الثالث كان من نصيب فريق من ثلاثة أشخاص من اسطنبول.ومن بين سبع فئات من برنامج جوائز تميز، جاءت مسابقة عام 2020 تحت عنوان "جسر مشاة حي فوق نهر النيل"، وطلبت المؤسسة مقترحات لجسر يربط منطقة ميدان التحرير (الضفة الشرقية) بمنطقة الزمالك (الضفة الغربية) في العاصمة المصرية القاهرة.
وتقدم للمسابقة نحو 177 مقترح من 44 دولة، لينجح في النهاية المعماريون المصريون من الفوز بالمركز الأول في جائزة رفعت الجادرجي 2020.المعمارية المصرية ابتسام الجيزاوي، أحد أعضاء الفريق الفائز بالجائزة تستعيد من الذاكرة بدايات العمل على التصميم، موضحة أن اختيار موقع المسابقة في مصر كان أحد الدعائم التي ساعدت فريقها على حصد الجائزة.وتقول الجيزاوي في حديثها لموقع سكاي نيوز عربية: "بدأنا التخطيط للتصميم بالتواجد في موقع الجسر المقترح، وأجرينا مقابلات عدة مع عدد كبير من مرتادي المكان، وكذلك البائعين والمصورين، واستمعنا لكل من يمارس حياة حقيقية على النيل، وفي النهاية سألنا الجميع عن ما يطمحون إلى رؤيته في هذا المكان، فهدف المشروع الحفاظ على نمط حياة الناس وثقافتهم، لكن أيضًا بطريقة حضارية، وأكثر تنظيمًا"
وتضيف: "إلى جانب الحفاظ على ثقافة المجتمع، أيضًا حرصنا أن يراعي التصميم إزالة العوائق البصرية بين المتحف المصري وبرج القاهرة، فالهدف من الجسر أن يكون إضافة تُيسر على الناس حياتهم اليومية، إلى جانب الحفاظ على المعالم المحيطة، كما يهدف مشروع الجسر إلى توفير مشروعات تجارية وترفيهية أيضًا تناسب جميع طبقات المجتمع".
روح العمل الجماعي
عادة ما يواجه العمل الجماعي في مجتمعاتنا العربية إشكاليات عدة، فمن النادر أن يُحقق مجموعة أشخاص نجاح مشترك؛ حيث يُسلط الضوء في أكثر الأوقات على قصص نجاح فردية، لكن في حالة فريق المعماريين المصريين، فإن الحالة والروح التي جمعتهم كانت مختلفة.وتصف الجيزاوي روح العمل الجماعي التي لازمت الفريق فترة إعداد التصميم، بأنها أهم من الجائزة نفسها، مشيرة إلى أن كل شخص من الفريق كان لديه إحساس أن ما يفعله ليس إنجازًا شخصيا، بقدر ما هو عمل يقدمه للوطن وللشعب المصري بأكمله، "وهنا غاب إحساس الانتصار للذات وبقيت الروح الجميلة التي دفعتنا للتعهد بالاستمرار كفريق واحد إلى الأبد".
وتوضح "الجيزاوي"، مُدرس العمارة بكلية الفنون الجميلة، أن القيمة المعنوية للجائزة كانت مهمة بالنسبة لفريقهم، خاصة أنها جائزة دولية وهي المرة الأولى التي يُحقق فيها مصريون المركز الأول، وتكشف أن قيمة الجائزة 5 آلاف دولار، وكان من المقرر أن يُقام حفل التكريم في الأردن، لكن تم تأجيل الحفل الذي كان مفترض أن يكون بداية العام الجديد، لكن نظرًا لظروف جائحة كورونا تم تأجيله.
من جهة أخرى يشرح علي خالد، أحد المعماريين الخمسة الفائزين بالجائزة، تفاصيل تصميم الجسر، والطراز المعماري الذي ينتمي له، موضحًا أن طراز الجسر ينتمي للمعاصرة، بمعنى أنه يعبر عن الزمن الذي نعيش فيه، واستخدام المسطحات الزجاجية بأقصى قدر ممكن جاء لإتاحة رؤية بانورامية لنهر النيل والمعالم الحضارية الموجودة.
ويلفت "خالد" إلى أن هناك عديد من المعالم المتنوعة في محيط الجسر؛ حيث أن الهدف منه هو إبراز تلك المعالم متنوعة الطُرز، مثل المتحف المصري الذي ينتمي إلى طراز النيو كلاسيك، وبرج القاهرة ذي التصميم الفريد في زمنه، وأيضا مجمع التحرير. "الهدف من المشروع هو إبراز المعالم المحيطة، وبمعنى أكثر دقة التصميم يتواضع لما حوله".
ترفيه وثقافة ومساحات خضراء
المعمارية هدى عصام، أحد أعضاء الفريق، توضح من جانبها المكاسب التي يجنيها المجتمع من وراء المشروع، موضحة أن الجسر يتكون من السطح، هو عبارة عن الممشى، وبه مساحات خضراء، وجلسات عامة للزوار، في حين يوجد طابقين آخرين، عبارة عن معارض معنية بالتراث والثقافة، وجانب آخر منها يقدم خدمات ترفيهية وخدمية مثل المطاعم ومتاجر وغيرها، توفر عائد اقتصادي.
وتضيف "عصام" لموقع سكاي نيوز عربية، أن ارتفاع الجسر لا يعوق حركة الملاحة النهرية، حيث أنهم التزموا بكود إقامة الكباري على النيل، الذي ينص على أن الارتفاع يجب ألا يقل عن 13 متر، في حين أن ارتفاع التصميم الخاص بهم 14 متر، وإضافة إلى مراعاة الجانب الهندسي والمعماري، يوفر التصميم مساحات خضراء واسعة في المحيط، منها أرض مبنى "الحزب الوطني القديم" إضافة إلى ضم حديقة المتحف المصري في المسطحات الخضراء.
وعن رأي لجنة التحكيم في التصميم، تقول اللجنة إنه كان أنيقًا ويسهل الوصول إليه عبر نهر النيل، وهناك سيولة ووضوح في المشروع، إلى جانب أن توافر مساحات اجتماعية لطيفة، تمنع أن يكون الجسر معوقًا بصريًا، والطبقات الثلاث معقدة ولكنها بسيطة، في حين أن المحور على الجانبين جذاب للغاية.
وتضيف اللجنة: التصميم يعانق الجزء الخاص به من النهر ويعزز الحياة داخل حدوده، حيث تكون بداية الجسر على الجانب الشرقي (المتحف المصري) أكبر وأكثر اتساعًا لتأكيد الأهمية النسبية لهذا، بينما على الضفة الغربية عند برج القاهرة، الساحة صغيرة وتتوافق مع الخصائص الواقعية من هذه المنطقة. تصميم الجسر واضح وديناميكي وناجح ، والنظام الهيكلي يتوافق مع متطلبات الملاحة النهرية.
وفي هذا السياق يقول المعماري شريف خالد، إن من بين 177 مشروع من 44 بلدا تقدم للمسابقة، اُختيرت قائمة قصيرة من 20 مشروع، تصدرهم التصميم الخاص بفريقهم، لافتًا إلى أن أهم ما مَيّز تصميمهم عن باقي التصميمات الأخرى، هو احترام الجانب العمراني؛ حيث أنه يمثل إعادة تخطيط للنسيج العمراني في هذه المنطقة.
ويضيف شريف، أحد أعضاء الفريق، لموقع سكاي نيوز عربية، أن عدم تعارض التصميم مع المتحف المصري، أو برج القاهرة، مَيّز التصميم عن منافسيه، مؤكدًا أن الزيارات المتكررة للموقع ساعدت في الوصول لهذه النتيجة، وإدراك المشاكل الفعلية الموجودة على الأرض، والوصول لحلول عملية لها.
ويشير المعماري المصري إلى أن الجسر لا يستقبل السيارات، لكنه مؤهل لاستخدام الدراجات، إضافة إلى أن هناك إمكانية لوجود عربات الخيول المستخدمة شعبيًا في هذه المنطقة، لكنه يعود ويؤكد إلى عدم تفضيله لوجودها، حفاظًا على سلامة رواد الجسر، خاصة الأطفال منهم؛ حيث أن فلسفة التصميم تنحاز للإنسان وراحته بشكل أساسي.
خبرة المسابقات الدولية
من جانبه، يقول مصطفى زكريا، إن حصد فريقهم للجائزة، يعود لعدة أسباب منها: الخبرة التي اكتسبها هو وزملاؤه من المشاركة في أكثر من مسابقة دولية، والتعرف على نقاط القوة في التصميمات التي تفوز بالجائزة الأولى، إذ مثلت خبرة المشاركة عامل مهم في فهم كيف يصلون إلى تصميم قادر على اقتناص الجائزة الأولى.ويضيف "زكريا، أن التصميمات التي تحوز الجائزة الأولى دائمًا ما تتميز بالأفكار البسيطة، لكنها تحترم البيئة والمجتمع المحلي، "تشجعنا على المشاركة في مسابقة تميز لعام 2020 بعدما علمنا أنها فكرة المشروع موجهة إلى أرض مصرية"
وعن كواليس العمل، يوضح المعماري المصري، أن أعضاء الفريق خصصوا يومًا في الأسبوع من أجل التصميم، وذلك بداية من شهر فبراير حتى شهر نوفمبر، "كنا نجتمع في كل الأوقات، حتى في الأعياد كنا نلتقي من أجل الانتهاء من التصميم".يعود زكريا إلى التصميم، مؤكدًا أنه يتكامل مع "ممشى أهل مصر"، ولا يتعارض معه أبدًا؛ حيث أن الفريق زار الممشى الذي تقوم الحكومة المصرية بإنشائه حاليًا، لافتًا إلى أنهم راعوا في التصميم جميع الجوانب الخاصة بالممشى لتحقيق التكامل بينهما.
بخصوص تكلفة إنشاء المشروع، يوضح زكريا أنه لا توجد تكلفة محددة حاليًا، خاصة أن عند التنفيذ سيكون هناك مراعاة لتفاصيل عديدة، ليست بين أيديهم الآن؛ مؤكدًا أنهم لم يتواصلوا حتى الآن مع مسؤولين حكوميين لعرض المشروع للتنفيذ، لكنهم يسعون نحو ذلك خلال هذه الآونة.المهندس محمد أبو سعد رئيس جهاز التنسيق الحضاري يوضح المسار الذي يجب اتخاذه من أجل تنفيذ هذا المشروع على أرض الواقع؛ مشيرًا إلى ضرورة توجه هؤلاء الشباب إلى جهة الولاية التي تملك الأراضي، وهي في هذه الحالة محافظة القاهرة.
ويوضح أبو سعدة أن المحافظة سوف تقوم بدراسة المشروع، لترى مدى تحقيقه لأهداف التطوير والتنمية بالمحافظة، وبعد اتخاذ القرار بالتنفيذ يتم عرضه علينا في جهاز التنسيق الحضاري لاستبيان الرأي الفني.وفي ختام حديثه أبدى أبو سعدة حرصه على الاطلاع على هذا المشروع، وتقديم المشورة الفنية للمعماريين الشباب، حتى يكون هناك قابلية لتنفيذ التصميم على أرض الواقع.
قد يهمك ايضا :
مجلة "الثقافة الجديدة" تستهل 2021 بالاحتفاء بالمتاحف المصرية