كان المثقف عبر التاريخ موضعَ اضطهادٍ بأشكال مختلفة، وما من مجتمعٍ مهما ادّعى التسامح والديموقراطية، إلا شهدَ حراكه السياسي تنكيلاً بالمثقفين. وفي أحسن الأحوال كان المثقف يعيش حالةً من الإقصاء أو التهميش، بغية تغييب دوره وإبطال فعاليته. كثيرةٌ هي الكتابات الأدبية التي تناولت هذه القضية، ومن أبرز أنواعها السير الذاتية. لكن تناولها عبر شهادة مسرحية، يمنح الموضوع طابع المعاينة الحية، خصوصاً عند البوح والتصريح بجرأةٍ أكبر مما اعتاد عليه المتلقّي، في تطوّر ناجم عن "الربيع العربي" والحراكات الشعبية التوّاقة للحرية. "الليلة التاسعة ما قبل الأخيرة"، عرض مسرحي قُدِّم في عمّان للمخرج محمد بني هاني، وهو من الأعمال القليلة التي تركّز على العلاقة بين المثقف والسلطة بوجوهها المختلفة، معاينة طبيعة هذه العلاقة والتباساتها في فترة ما قبل "الربيع العربي"، وما تبعه أيضاً، وفق شكلٍ مسرحي تأسّسَ على تقنية الذاكرة الانفعالية. العرض الذي كتب بني هاني نصَّه ووضعَ رؤيته، قدمته فرقة "جسد" لفنون الأداء بدعم جزئي من الصندوق العربي للثقافة والفنون/ آفاق. وبدا أن تقديمه في هذه المرحلة خيار موفَّق في ظل الاستعدادات الحثيثة في الأردن لإجراء الانتخابات النيابية، وفي سياق دعوة الإعلام الرسمي طرفَي العلاقة إلى التحدّث بـ "شفافية وجرأة" والنظر إلى هذه الانتخابات بوصفها من استحقاقات "الربيع العربي"، وهو ما لم يكن كافياً ليقنع التنظيم الأضخم في المعارضة الذي تمثله جبهة العمل الإسلامي، بالمشاركة بعد ملاحظاته على قانون الانتخاب. هدفت لوحات المسرحية ومشاهدها إلى إظهار مدى فداحة الظلم الواقع على المثقف من جانب النظام السياسي العربي، لجهة العبث بنتاجاته، واضطهاده على صعيد شخصي، وفي إطارٍ جمعيّ أيضاً عبر التضييق على الحريات العامة، ورفض التنوّع وعدم تقبّل الاختلاف بالرأي، وفي النهاية دفْع المثقف إلى الوقوع في التبعية وإلاّ أصبح ضحيةً للإقصاء والتهميش. تتناول الرواية شخصية "الراوي"، وهو فنان مسرحي اعتقل في شبابه، لاعتناقه الفكر اليساري، وانحيازه في آرائه الى الإنسان وحريته في التعبير ورفضه أشكال العبودية والاستبداد والقمع. وهو الشخصية الأساسية التي تدور الأحداث من حولها. وطرحت السياقات المضمرة في البناء العميق للعرض إشكالية "المثقف العضوي"، والمأساة التي يعيشها في دولٍ تبني سياساتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية على المفهوم الأمني، ما يجعل منه "حبةَ قمح بين حجرَي الطاحونة": السلطة العربية الرسمية من جهة، والأعراف والعادات الاجتماعية التي نبتت كالطحالب خلال زمن هذه السلطة من جهة أخرى.