في شبـه ظلمة مملوءة بالأنين، تذكّر بليالي المعاناة المرّة لشعوب أفريقيا، علا صوت على مسرح "فندق البستان" بقراءة نص عربي تراثي. وعلى رغم رصانة الجمهور الأرستقراطي الطابع، الذي لم يتخلّف عن عادة حضوره إلى المهرجان الموسيقي في "البسـتان" مـنذ 20 سنة، علـت همـهمات متنوّعة، حمل بعضها إشارات إلى هموم لبنانية حاضرة عن التوتر المذهبي والطائفي في بلاد الأرز. جاء الصوت الشجيّ ليرسم بُعداً إسلامياً هو أحد مُعطيات الهويّات المُهاجرة في أوروبا. وبصوت متألّم، ارتفعت الكلمات العربية واضحة بلكنة أفارقية، مُعبّرة عن عجز هائل للإنسان أمام معاناة آلامه اليومية تحت آفاق مسدودة، لا يفتح انسدادها المُدمّر سوى الأمل بالماورائي، أو بإلقاء النفس في مغامرة يائسة هي الهجرة إلى أرض الأحلام: أوروبا. وأتى هذا الصوت من ثلّة مهاجرين أفارقة روى عرض "الكمير" QUIMERAS (إخراج الإسباني باكو بيّنا)، قصّة اندماجها مع فن الفلامنكو الإسباني (معناه في تلك اللغة "ما يشبه النار") لصنع فرقة - حلم تمزج نيران الفلامنكو برقص أفريقي متفلّت الأجساد. بقول آخر إنه رقص يحقق حلم التفاعل بين الهوّيات الإنسانية، وليس ذوبانها بعضها في بعض، بل صنع الجسد الراقص الذي يمزج المفرد بالمتعدد. يستهل العرض على صورة الحلم بفرقة ترقص مزيجاً من الفلامنكو على إيقاع الغيتار والصونجات العريضة وطبل الـ "كاسون" الإسباني ورنين أصابع الـ "ميتال فون" النحاسي وعصيّ الـ "بازتون" السريعة وتصفيق الأيدي بإيقاع الـ "بالماس" سريعاً وبطيئاً، وغناء بأصوات نساء ورجال من جهة، ورقص أفريقي متطاير الأجساد على إيقاع الطبول الأفريقية المتنوّعة بإسناد آلة وتريّة من القارة السمراء أيضاً، ويمزج الأنثوي بالرجولي. ثم جاء عزف منفرد على الغيتار من المخرج بيّنا الذي جلس منفرداً في مقدّم المسرح، مسلّطاً عليه ضوء قويّ ومُركّز. وظهر راو للحكاية، ما ذكّر بأساليب كسر التوهيم في الإخراج المسرحي التي ابتكرها الألماني برتولد بريشت. وكرّت سبحة القصّة. وبالرقص والمزيد منه، روى عرض "الكمير" معاناة أفريقية شابة، يدفعها عيش بائس إلى الهجرة. وفي أحلام امرأة أفريقية، تظهر الأوروبية حلماً بهيّاً. وفي أداء هذا الحلم، ظهرت إحدى راقصات الفلامنكو، على مسرح مظلم، ارتمت على إحدى جنباته المهاجرة الأفريقية، مفترشة الأرض وغطاء صفيقاً. وتألقت الإسبانية بثوب أبيض لامع، يرافقها شال يماثله التماعاً. وانصب نور أزرق على الجسد المتراقص الذي يحوّل الشال جناحاً يرفرف بتؤدة بنار الرقص المتّئد، ما يجعل الراقصة أشبه بفراشة حلم. تنهض المهاجرة مرنّمة بحلمها، وتمارس بعض خطواته، ثم تعود مكسورة إلى نومها المتشرّد. وتستمر الحكاية المؤلمة. يصل المهاجرون الأفارقة، وهم فنانون في بلادهم أيضاً، إلى أوروبا التي تقابلهم أولاً بوجهها القمعي عبر الشرطة والجنود. ويدور صراع له بُعد خفيّ، إذ يشكّل صلة أولى، لكنها مؤلّمة مملوءة بالقمع، بين المهاجرين وأبناء البلاد الأوروبية. وشيئاً فشيئاً، تنحلّ شبكة التعقيد أمام المهاجرين. يعملون ندّلاً في الفندق، فيدخلون من باب موارب إلى فن أوروبا. وفي عتمة الليل، تخايلهم بلادهم البعيدة، ويستعيدونها كلمات وطقوساً ورقصاً. ويبدأ التفاعل في الاتجاهين. يقلّد المهاجرون فن أبناء الموطن الإسباني أحياناً. ويشرع الإسباني في الاعتراف بهويتهم، عبر التقرّب فنيّاً منهم. ويخلع راقص فلامنكو حذاءه، كي يقرّب فنّه الراقص من رقصهم الأفريقي المتوهّج. ويتجاوب الأفارقة معه، برقص حافي القدمين، لكنه يحاول التقاط أوضاع وحركات من رقص الفلامنكو. ويشرع رقص المهاجرين في التغيير قليلاً، ويحتفظ بوثباته واهتزازاته القوية التي ترقص بالجسد كله، لكنه يميل إلى شيء من الاقتباس والمنهجية. وكذلك ينتعل راقصو أفريقيا المهاجرون أحذية، على غرار ما يفعل راقصو الفلامنكو. وتتمازج أجساد أنثوية إسبانية راقصة مع نظيراتها المهاجرة. ثم يتبلور الحلم برقص يؤديه جسد راقص متعدد الهويّة. ويبدأ فصل الختام في الرقص على ما استهل عرض "الكمير" به، لكنه يتوسّع أكثر فأكثر، ويغدو أكثر فوراناً وتفاعلاً، فتصبح أجساد الفلامنكو وكأنها اقتبست شيئاً من رقص أفريقيا المهاجرة.