طرابلس ـ وكالات
منذ الصفحات الأولى، يُمكن القارئ أن يتلمّس في كتاب «حصون على الرمال: تريبوليتانيا الليبية 1934» (دار الجمل) الذي ينتمي إلى أدب الرحلات، سحر الموضوع الذي يقدّمه وأهميته. فنرى أنّ مؤلف الكتاب برونيسواف كريستين فيجايسكي، الطالب البولندي، كان قرر زيارة ليبيا، فقط، بسبب حبه للصحراء، ومن ثمّ دوّن مشاهداته بلغة أدبية شيّقة وجذّابة، وببراءة خالصة من أية شبهات استعمارية. قليلة هي الكتب التي كُتبت عن الصحارى العربية، لدوافع إنسانية خالصة. وللوهلة الأولى، عند قراءة العنوان، قد تتبادر إلى الذهن أعمال أخرى كتبها رحّالة ومستشرقون لغايات سياسية بذريعة الاستشراق أو شراء الخيول، مثل كتاب»حجّ إلى نجد» لليدي آن بلنت وزوجها ولفرد سكاون بلنت، أو كتاب «الرمال العربية» لولفرد ثيسغر، أو «البدو» للبارون ماكس فون أوبنهايم. لكنّ سيرة مؤلف هذا الكتاب تبعد كل الشبهات «الجاسوسية» عنه. بدأت القصة عندما كان الكاتب طالباً جامعياً في روما، وبينما كان يحتفل مع صديقه الايطالي «مارسيلو» بمناسبة اجتياز الامتحان الأخير في الجامعة، هتف مارسيلو قائلاً لصديقه البولندي: «أدعوك إلى طرابلس لتقضي عندنا عطلة العيد. ستستقبلك عائلتي بصدر رحب وستكون لك فرصة للتعرف الى طبيعة عملنا في المستعمرات الأفريقية. أما عن تكاليف سفرك، فلا تهتم، ستكون عند الحد الأدنى: المطلوب أن تؤمّن فقط قيمة التذكرة إلى افريقيا ومقابل هذا، آمل أنك ستأخذني يوماً ما إلى بلدكَ بولندا لتريني حقول الحبوب عندكم ومناجم الفحم والملح وكل شي عن بلدك تحبّ الحديث عنه». وهكذا كانت بداية مغامرة هذا الشاب الجامعي الذي شدّ الرحال إلى ليبيا باقتراح ودعم من أصدقائه الايطاليين، هو الشاب الذي يتمتع بحرية سمحت له باتخاذ قرار لا يخلو تحقيقه من مخاطرة. موضوع الكتاب محصور بفترة زمنية حسّاسة في تاريخ ليبيا، تميزت بتحريرها من التبعية العثمانية وإدخالها ضمن النفوذ الايطالي الذي حوّلها إلى مستعمرة استراتيجية. وخلال فترة وجود الكاتب في ليبيا، كانت الفاشية الإيديولوجية الرسمية المعتمدة في إيطاليا قد تمثلت بموسوليني وأطماعه الاستعمارية. فلا يخفي الكاتب، وفي أكثر من مكان، قلقه من تبعات هذه الايديولوجية التي، كما نعلم، أسفرت عن ويلات تجسدت بالمحارق الجماعية ومعسكرات الموت. من هنا يُمكن اعتبار هذا الكتاب توثيقاً حيّاً لتلك الفترة من تاريخ ليبيا. بفضل معارفه الايطاليين، استطاع ذلك الشاب المغامر تحقيق أمنيته بالسفر إلى ليبيا أو المستعمرة الايطالية «تريبوليتانيا»، ومن ثم الحصول على رخصة من قيادة الجيش في المستعمرة، تخوله حقّ استعمال المواصلات العسكرية مجاناً مع المبيت مجاناً في كل مراكز الحصون العسكرية، وإلاعفاء من تكاليف التغذية في المطاعم العسكرية وثمن المواد الغذائية من المخازن العسكرية. وبعنوان «مدينة تغازل الصحراء»، يُقدم الكاتب وصفاً لمدينة طرابلس في عام 1934 بدقة مدهشة ولغة خلاّبة، وذلك قبيل إنطلاقه في رحلة تستغرق أربعة اشهر تقريباً، يتجوّل خلالها بين الواحات الصحراوية، حيث يكتب كل انطباعاته، ويصف كل ما يراه. إنّه يكتب عن كل ذلك بإخلاص حقيقي إلى حدّ أننا نصدقه وهو يقول في بداية رحلته: «لم أحسد يوماً إنساناً على ما يملكه من الغنى والشهرة والأوسمة، لكنني أحسد فعلاً الرحّالة الذين يتجولون ويكشفون العالم المجهول لنفسهم ولغيرهم». يحتوي الكتاب في نهايته معلومات إحصائية نادرة، وبالأرقام، عن الجزء التريبوليتاني من ليبيا، تشمل كل مناحي الحياة ومعالم الطبيعة من جغرافيا وتعليم (المدارس بمختلف مراحلها) وثقافة (أسماء الصحف) ورياضة (أسماء النوادي) وتجارة وطُرق وثروة حيوانية ونباتية وحجم الاستيراد والتصدير مع تعداد السكان وتوزيعهم وأصولهم... وما يضفي مزيداً من الجمالية على هذا الكتاب هو النيات الطيبة للشاب البولندي المغامر الذي لا تكتب له الحياة أكثر من ثلاثين عاماً. كتب الشاب فيجايسكي هذا الكتاب ونشره في بولندا عام 1935، ومن ثمّ اختفى ذكره إلى أن ورد اسمه الكامل ضمن لائحة تضمّ أكثر من تسعة عشر ألف ضابط من ضباط الجيش البولندي الذين فُتك بهم غدراً، برصاصة في مؤخرة الرأس، في منطقة غابات تدعى «كاتين» تقع في غرب روسيا، في العام 1914. إنّها نهاية مؤسفة للرحالة الذي يذكر في كتابه وهو على مشارف الصحراء الليبية: «أعشق الأجواء المفتوحة والمساحات الواسعة، ومن الهواء عليله، أحبّ كلّ إنسان حيّ، أهوى الحياة السعيدة، الجميلة، المليئة بالنشاط والحركة». ربما كان حدس خفي ينذره، ويبدو أن الشاب فيجايسكي كان يخاف من شيء ما دون أن يعلم ما هو: «كيف ستدور السنوات بي؟ إلى أين سيقذفني مجذاف الحياة؟ كيف سيكون مصيري؟- هل ستتصف بغنى الانطباعات وبجمال الأحاسيس، كسنوات الشباب المحظوظ التي عشتها؟»... مترجم الكتاب ميخائيل عبدالله يروي في تقديمه للكتاب رحلة الترجمة الطويلة التي استغرقت أكثر من عشر سنوات من المراسلات بين المترجم والهيئات المختصة في وارسو للتأكد من المصير المؤلم لمؤلف هذا الكتاب الرشيق. ومن المقاطع التي تعكس تأثّر فيجايسكي البالغ بتلك الرحلة: «أتجولُ في الواحة. ألقي عليها نظراتي الأخيرة. أودّع كلّ شيء وكل إنسان: المسالك التي مشيتُ، الأمكنة التي جلستُ فيها، الناس الذين تحدثت معهم... بدأتُ الآن – بعد تجربتي الحية مع الصحراء وتعايشي مع رمالها ونخيلها- أقيّم العديد من الأمور بمعيارٍ آخر. تغيرت مفاهيمي».