عمان ـ وكالات
هذه الرواية هي الرواية الأولى للدكتور راشد عيسى بعد إصداراتٍ عديدةٍ في الشِّعر والنقد والبحث ، والتي صدرت عن دار أزمنة للنشر عام 2010 وتقع في 187 صفحة من الحجم المتوسط . تتناول الرواية مرحلةً تاريخيةً هامةً وقلقةً من تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني على أرض فلسطين ، وتمتد أحداث الرواية من فترة ما بعد نكبة عام 1948 وحتى هزيمة حزيران عام 1967 . تتناول الرواية تلك المرحلة عبر تاريخ وحياة عائلة فلسطينية لجأت بعد نكبة عام 1948 إلى نابلس ، وعبر رواية وطفولة الراوي الرئيسي في هذه العائلة والذي أعطاه الروائي شخصيتين وإسمين هما : نبهون ، جينو . استطاع الروائي وعبر الراوي ( جينو ) الذي استولى على ناصية الراوي في معظم مفاصل الرواية ، وهذه المساحة التي أعطتها الرواية لجينو ليست بدون دلالة فكأنها انتصارٌ لهذا الطفل الفلسطيني الذي ذاق مرارة النكبة والنكسة هو وعائلته البائسة الفقيرة والتي لا تملك من حطام الدنيا شيئاً . في رواية جينو لطفولته ومراراته أضاءَ شخصياتٍ كثيرةً حيَّةً ونابضةً وحقيقيةً عاشت النكبة والنكسة الفلسطينية وتجرَّعت كلَّ مراراتها . الشخصية المحورية الهامة الأخرى في الرواية كانت شخصية ' إيلي ' والد جينو الذي كان شرساً وقاسياً ونبيلاً وفناناً يعزف على الربابة أشجى الألحان ، إيلي الكريم الذي لا يقبلُ أن يشبعَ وجيرانه الفقراء جائعون ، إيلي الذي تنقَّل عبر عشرات المهن ليطعم عائلته البائسة المنكوبة ، فقد عمل مزارعاً وصياداً في البرِّ والنهر ونساجاً للقصب وبنَّاءً ومعالجاً بالطبِّ الشعبي ، وحين أحسَّ أنه في هذه المهنة الأخيرة يخدع الفقراء والمساكين هجرها دون رجعة . ' إيشا ' والدة جينو هذه الشخصية القاسية والبائسة والمُتعَبة والتي تقوم بكلِّ أعمال خدمة أسرتها بشقاءٍ ما بعده شقاء ، والتي ولدت جينو وهي تحطِّب مع زوجها في الجبال ، والتي لم تحضن يوماً جينو بحنان الأم . هذه القسوة وهذا الإهمال لجينو ساقه للبحث عن أمٍّ وأبٍ غيرهما فما وجدهما إلا في الطبيعة في شجرة التوت ، البئر ، حقل الزيتون ، الماعز ، البقرة ، النساء الطيبات اللواتي التقاهنَّ في بيت لحم ونابلس وأماكن أخرى تنقَّل وعاش بها- ، وهذا ما أعطاه الجانب البريَّ في شخصيته وقرَّبه من فلسفة الأشياء والأماكن وإضفاء الحياة على كائنات الطبيعة الجامدة وإنطاقها وإدخالها في مجاله الثقافي والتخيلي للحياة والعالم وبحيث شكَّلت هذه المنظومة بديلاً عاطفياً للإهمال والقسوة والنكران الذي يواجهه جينو من عائلته وعالمه ، أصبحت النافذة والباب والفانوس والهاون والبريموس والبئر وغيرها كائنات حيَّةً وصديقةً لجينو يحاورها ويقاسمها حزنه وأسراره . كانت رحلات جينو مع أبيه لنهر الأردن والبحر الميت مصدراً جديداً لوعي هذا الطفل المتمرِّد والذي كانت أمُّه تسميه فرخ الجن وبحيث أضافت هذه الرحلات والمهارات العديدة التي علَّمها ' إيلي ' له مخزوناً لا ينضب من المهارات والخبرات والمعارف والتجارب والتي منحت شخصيته تلك الميزة البريَّة التي جعلته أذكى أترابه في التحصيل العلمي . في هذه الرواية وظَّف المؤلف ثقافته التراثية والفكرية والشعرية والفلسفية في مقاطع كثيرة من الرواية ، كان ذلكَ واضحاً في حوارات جينو مع نبهون وفي أوراق ' إيلي ' ومقولاته التي أُختتمت بها الرواية . جينو ونبهون هما لعبة المؤلف في هذه الرواية ، فقد قسم الراوي إلى شخصين وحالتين ووجهين ربما كان في التسمية نوع من الكشف عن هذا الهدف في حوار شخصيتين داخل الشخص نفسه فنبهون من النباهة والثقافة وهي شخصية جينو المثقفة التي تحترم وتراعي التقاليد والمجتمع ، بينما جينو من الجن ويمثِّل الجانب البريّ والمتمرِّد على كل الأعراف والتقاليد ، وفي حوار هاتين الشخصيتين الموجودتين في كلٍّ منا كانت الرواية تتقدَّم في حبكتها وحركتها . كان صوت جينو هو الصوت البارز على مدار صفحات الرواية وهو يروي ويُذكِّر ويُعيد ' لنبهون ' حياته البريَّة والقاسية وخبراته المتنوعة بما فيها عمله في الصحراء مدرِّساً في قريةٍ سعوديةٍ فقيرةٍ وبائسةٍ وإشاراته لبعض الشخصيات الصحراوية وبؤسها وبساطتها والتي شكَّلت امتداداً لخبراته في نابلس ووادي التفاح ونهر الاردن والبحر الميت والمخيم والهجرات المتتالية : كلُّ ذلك كان من جينو ليذكِّر نبهون أن يبقى مخلصاً للبراءة الأولى والفقر والفقراء ولا ينجرف في ثقافته وينسى هذا الفقر وهذا البؤس الذي شكَّله وأعطاه تميُّزه . لا بدَّ من عودةٍ لشخصية ' ايلي ' هذا الأب الأسطوري والذي يحلم بقتلِ شيءٍ ما في السماء ، والذي يرى نفسه أقوى من الموتِ وأعلى من هذه الحياة ' البغلة ' ، إيلي الذي تنكسر روجه بعد هزيمة حزيران فيقوم بإخصاء نفسه وينهي رجولته كتعبير عميق عن فداحة الهزيمة التي لا معنى لرجولة حيوانية معها . كان هناكَ جُرأةٌ في طرح بعض الحكايات المسكوت عنها وبعض التشبيهات الشعرية الخارجة عن المألوف وشكَّلت هذه الحكايات والصور رصيداً أضاف للرواية نبضاً شعريَّاً عالياً وجميلاً ، باستثناء تشبيهٍ واحد وجدتُه غيرَ ملائمٍ وهو ما ورد ص 168 من الرواية في وصف جينو لبول وغائط حبيبته . ' جينو ' كان عاشقاً وكان يبيع التمرية في شوارع نابلس قبل الفجر وقبل ذهابه للمدرسة ليجمع ثمن هديةٍ لحبيبته النابلسية الجميلة ، والتي أيضاً يفقدها بعد هزيمة حزيران عام 1967 بهجرة أهلها إلى عمَّان ، صورة جديلتها التي قصَّتها وأهدتها له والتي أخفاها فرحاً عند أمِّه ' إيشا ' والقبل المختلسة والطفولية والفرح الذي كان ينمو في قلبه الصغير ، كل ذلك كسَّرته وشرَّدته الهزيمة التي كوَّنت جراحاً عميقةً في نفسِ وروح جينو والتي راح يُعيدها على صنوه ' نبهون ' حتى لا ينسى . حياة المخيم والبؤس والفقر والجوع والبرد والعُري كلُّها كانت تتوالد في الرواية وتتحرَّك عفويَّاً وبدون قصديَّةٍ مفتعلة وخطابية كأنها هي المقصودة من الخطاب بل كانت تشكِّل نسيجاً عضويَّاً وطبيعياً يأتي مع سرد الأحداث وليس منفصلاً عنها . في رواية الدكتور راشد عيسى تجربةٌ جوانيَّةٌ عميقةٌ وتجربةٌ تاريخية عميقةٌ وقاسية امتزجتا في نسيجٍ روائيٍّ أخَّاذ وبلغةٍ فنيَّةٍ سليمةٍ وقريبةٍ وشفافةٍ ، حتى حين كان يستخدم بعض المأثورات والمقولات التراثية أو بعض الصور البريَّة والوحشية من تقلُّبات وامتزاجات جينو مع الطبيعة والكائنات كانت كلُّها تندرج في نسيج لغة الرواية السلسة والجميلة . في هذه الرواية كثيرٌ من الصدق وكثيرٌ من الجُرأة وكثيرٌ من البوحِ وكثيرٌ كثيرٌ من الشِّعر ، فيها كثيرٌ من الغضب والقهر والحب والحزن والخيبة والأمل والحكمة والفلسفة والغفران والحياة وكثيرٌ من الفنِّ السرديِّ والروائيِّ الجميل . هذه الرواية روايةٌ تستحقُّ أن تُقرأ وتُحلَّل لما تضمنته من أصالةٍ في بنائها وصدقٍ في لغتها وأجوائها ولما احتوته من قضايا وطنية وإنسانية وفلسفية وفكرية في سلوك وحوارات شخصياتها النابضة بالحياة والبؤس والقهر .