أبوظبي ـ العرب اليوم
كثيرةٌ هي المسافات التي تخطّاها الشاعر الإماراتي أحمد العسم في مجموعته الشعرية "باب النظرة"، باحثاً عما هو أصيل في ذواتنا وفي ذاته قبل كلّ شيء، ليجد كل الأصالة وقد باتت متعبة من زحمة الآن وهنا، فببساطة أرواحنا تنفذ منها الطمأنينة يوماً بعد يوم، لأننا وببساطة صرنا فاقدين للذة الحياة البسيطة. في هذه المجموعة الشعرية، الشعر المقروء، شعرٌ حديث، واللغة الشعرية عربية فصيحة، لكنها لطيفة خالية من التعقيدات اللغوية، تقترب من القارئ في عاميته ليفهم كل معانيها ويدركها، خاصةً وأنّها تلامس شيئاً ما بداخله. فمن الإمارات إلى كل بقعة في الوطن العربي، تنتشر الكلمات بالتزامن مع التطوّر الحيوي والمعيشي الذي بات إفرازاً طبيعياً من منتجات اليوم. 24 قصيدة تتراوح بين الطويلة والمتوسطة والقصيرة، شملها "باب النظرة"، وتنوّعت بموضوعاتها التي طغى عليها طابع الحنين والوجع أحياناً، والحب والأمل أحياناً أخرى. وكان العنوان قد جاء من قصيدة "باب النظرة" الموجودة داخل المجموعة، والتي كتب شاعرنا في بدايتها: هذا الصباحُ الذي أطلّ بلهفتِهِ من فمكِ لم يلتفت إلى حزني الممدّدِ على الشجرةِ المملوءةِ بالندى ارتبطت قصائد العسم في الديوان، بالأماكن، فمعظم قصائده لم تخلُ من الإشارة إلى مكانٍ أو أكثر، وأحياناً تكون الإشارة متخفية ما بين الكلمات ولا تعرض بكلمة واحدة واضحة، ويبدو تعلّق الديوان بالأماكن جلياً من خلال عنوانه الذي يوحي أصلاً بمكانٍ ما، أو على الأقل بمدخلٍ إلى مكانٍ ما. ففي قصيدته "منفى الألم" أشار في الحقيقة إلى المنفى كمكان، إلا أنه يماهي ما بينه وبين جسده لنعرف أنّها آلام الحياة: جسدي منفى الألمِ وحاضنُ غيابه في هذه الزاوية من الوقتِ لا أملكُ من أمري شيئاً ولا يُذعنُ للخافتِ صوتُ الحياة بينما في قصيدة عنوانها "قدم في العاصمة"، المكان يتجلّى بصفته الحقيقية والواضحة، وهنا يقول أحمد العسم: "في كل مرة أكتب فيها الشعر، تأخذني الحروف والكلمات نحو أماكن أحبّها كثيراً، حيث تسهم هذه الأماكن بإعطائي الإيحاءات والحالات والصور الشّعريّة، ويتكرر هذا حسب الحالة التي أكون فيها"، يقول: في سَيح البريراتِ وعند ظُرفكَ الأليمِ تقفُ شجرةُ سمرٍ تفتحُ صُرّتكَ المشحونةَ بالشجبِ والتنديدِ بعض الأماكن في "باب النظرة"، تمتزج بالثقافة الإماراتية المحلية، قد لا يعرفها إلا من ينتمي لهذه البيئة، إلا أنّ المعنى لا يتوقف عند معرفة الأماكن فقط، إنه أعمق بكثير وقد ينطبق على حالات كثيرة دون التشبث بالمعنى الحرفي لكل مكان. فضلاً عن أنّ بعض الأماكن المذكورة في قصائد الديوان تحيل إلى الثقافة الإنسانية كلها، وترتبط بمخيلة كل إنسان. ميزة أخرى من قصائد الديوان، تتجسّد بكونها طويلة بالنسبة إلى قصائد غيره ممن يكتبون الشعر الحديث، ونكتشف من هذا الطول أنّ أحمد العسم يمتلك نفساً شعرياً مستمراً أعطاه القدرة على كتابة قصيدة شعرية واحدة تمتد على صفحات، دون الحاجة إلى تقطيعها وفصلها إلى مقاطع. وقد جعلت هذه الاستمرارية كل قصيدة أشبه بقصة قصيرة، حيث اعتمد فيها شاعرنا على أدوات القصة من البداية إلى النهاية، والأساس كان وجود الحكاية التي يريد أن يحكيها العسم لنا. صارت "العزلة" الإنسانية والاجتماعية مصير كل الشعراء والكتاب والفنانين في مجتمعاتنا، خاصةً في مجتمعات الدول الخليجية التي تغزوها الحضارة التكنولوجيا والخدماتية، ففي هذه البلدان، يأخذ الشاعر زاوية منفصلة عن كل الأماكن، ويحاول أن يرسم واقعه كما يراه بالكلمات والحروف. وأمّا أحمد العسم، فللتفاصيل في هذا الزمان معنىً آخر بالنسبة له، أو أنّه يعبّر عنها بطريقة مختلفة تأخذنا عنوةً إلى محاولة الفهم والاقتراب من المعنى، ففي قصيدته "عيون كبيرة للوسواس"، يبلغ المعنى حداً يجب التفكير فيه كثيراً عندما قال: لا تضمّ يدك وتبحلق في السفرِ البلادُ على العظمِ وفي قلبِ النخلةِ فأسٌ لتعود الغربة وتتضح لنا وله بشكلها الأبشع، إنها غربة داخل الوطن وداخل غرفنا الخاصّة، وهو ما يشير إليه العسم في قصيدته "غربة الغرف" بغض النظر عن الأسباب التي تحيل إلى الشعور بالغربة عند شخص وآخر. وقد تحدّث العسم عن غرفه الخاصّة به فقال: "مررت بتجربة مؤلمة جداً، دفعتني إلى كتابة مثل هذه القصائد، والشاعر بطبيعته لا يصرّح بألمه، إنما يحاول تحويله إلى الشعر. وأما الغرف التي أذكرها فهي غرف المستشفيات التي اضطررت إلى التنقل فيما بينها، من الإنعاش إلى الجراحة إلى.... وقد كنت وقتها في حالة عزلة تامة". ويضيف: "لكن ورغم كل الألم والوحدة التي حاصرتني في غرف المستشفيات، إلا أنّ هذه الغرف قد حرّضتني على الحياة بقوة"، يقول: في الليل تسعل الغربةُ تحت سريري الغربةُ بيئةٌ طاردةٌ في هذه الغرفةِ ومفزعةٌ أحياناً وإلى جانب "باب النظرة" أصدر الشاعر أحمد العسم أكثر من مجموعة شعرية، منها: "يحدث هذا فقط"، "ورد عمري" ومجموعة مشتركة بعنوان "مشهد في رئتي"، كما أنّه رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، فرع رأس الخيمة منذ العام 2000، وقد نشر أعماله في المجلات والجرائد والدوريات داخل الإمارات وخارجها.