دمشق ـ وكالات
يصف الفيلسوف الألماني هيدغر الغرابة بأنها ذلك الحيز المكاني الفارغ أو الخاوي الناتج من فقدان الإيمان بالصور المقدسة لأن الإنسان العاجز عن الإيمان يترك غريبا في الفراغ والعدم.. هكذا يبدأ الدكتور شاكر عبد الحميد كتابه الغرابة.. المفهوم وتجلياته في الأدب شارحا الطابع الجوهري لوجودنا كبشر في العالم فالإنسان في عالمه يعيش حالة دائمة من القلق كما يصفه الفيلسوف الألماني شيلنغ الذي استمد فرويد منه أفكاره الأساسية فالغرابة هي اسم لكل شيء كان ينبغي أن يظل خفيا وسريا لكنه مع ذلك يتكشف ويتجلى ويظهر. يناقش المؤلف عبد الحميد في كتابه الصادر مؤخرا عن سلسلة مجلة عالم المعرفة مفهوم الغرابة عند فرويد والتي عرفها بأنها تلك المشاعر الخاصة تجاه شيء معين وعند نيتشه حين تحدث عن العدم الأوربي في كتابه إرادة القوة فيقول: بيد أن الأكثر غرابة من الغرابة نفسها أن تتحول الأشياء التي كان ينبغي النظر إليها على أنها غريبة إلى أشياء عادية ومألوفة حالة بين الحياة والموت التباس بين الوعي وغياب الوعي حضور خاص للماضي في الحاضر كنوع من الخيال المرتبط بالخوف وانعدام الأمن والوحشة والتوجس فالغرابة هي خيال الوحشة وليس خيال التفاؤل والبهجة وأحلام اليقظة أو سرعة تحقق الأمنيات في خيال البهجة أو ما أطلق عليه الفلاسفة الخيال المضيء أو الخيال المعتم. ويستعين الدكتور عبد الحميد بقصة من قصص ألف ليلة وليلة كمدخل لموضوع كتابه الشيق نظرا لما تحويه القصة من أشياء غريبة وهي قصة السندباد البحري. فيبين لنا الكاتب عبر هذه القصة أن المغزى منها يكمن في تطابقها مع القول السائد في بعض الدول العربية عن بعض الأشخاص الذين لا يتوقفون عن الحركة أو من تصيبهم بعض الأمراض النفسية على نحو..ركبه عفريت أو ركبه الجن ما يدل على الغرابة في سلوكيات بعضهم بما يتجاوز المألوف. ويروي أستاذ علم النفس الإبداعي تصورات خاصة حول العلاقات الممكنة والارتباطات بين الغرابة وعالم الأدب عموما والرواية خصوصا مستعرضا الميثيولوجيا الإغريقية وتانتالوس الذي حكم عليه أن يظل في حالة عطش دائم ليرتفع الماء إلى شفتيه فإذا حاول أن يرشف منه غار الماء في الرمال إضافة لاستشهاد الكاتب بقصة سيزيف والصخرة وما فيهما من غرابة حالة الغياب كوجود الصخرة عند القمة وغيابها عند السفح فضلا عن أن الكاتب يقدم أمثلة عن روايات عربية وغربية تحاكي موضوع الغرابة وغير المألوف كما في قصة كافكا وتحول الإنسان إلى مسخ وقصة القط الأسود لإدغار آلان بو حيث يتحدث عن جوهر الغرابة في قصص الكاتب الأمريكي مركزا على العلاقات الموجودة بين إحساس الخوف والفزع والرعب وبين الإحساس بالغرابة فمفهوم الخوف الذي يتجلى بصرخة نطلقها لحظة الصدمة أو القلق الذي يمنعنا من النوم. ويكرس الناقد عبد الحميد كتابه للحديث عن مفهوم الذات وتطورها وارتقائها نحو السماء أو نحو التفكك والاختلال والمرض وما يصاحب هذه الحالات من مشاعر خاصة بالغرابة ليطرح بعد ذلك فكرة الجذور الفلسفية والسيكولوجية والأدبية لفكرة الازدواج والحياة المزدوجة الخاصة بالشخص أو تعدد الهوية وانقسامها إضافة إلى فكرة القرين أو الشبيه في الأدب التي طرح من خلالها موضوع الاختلال حين يتفاقم ويصل إلى مرحلة الازدواج وكيف يحدث هذا الازدواج عند مستوى الوعي فتظهر الشخصية المتناقضة المدعية المنافقة أو ذات الحياة السرية. ويصل صاحب الأدب والجنون إلى مناقشة روح المكان في المدن الحديثة كالمدن التي تسكنها روح خاصة أو قلقة وربما مريضة أو الهائمة في المكان مبينا مفاهيم الأشباح والأطياف والمراودة ومعاني هذه المفاهيم القديمة والحديثة وعلاقتها بمفهوم الغرابة مستعرضا بعض المصطلحات والمفاهيم الشبحية ودور الأشباح في الأدب فيقدم ترجمة كاملة لقصة رجل الرمال لكاتبها الألماني أي .هوفمان والتي قامت على أساسها أفكار فرويد جميعها حول موضوع الغرابة وهي الأفكار ذاتها التي ما زالت تتردد أصداؤها في الدراسات النقدية والتحليلية والنفسية حتى هذا الوقت فيخصص الكاتب خاتمة بحثه لعرض ومناقشة بعض الدراسات النقدية الحديثة التي أجريت على قصة هوفمان وعلى دراسة أفكاره. ويوثق الكاتب أنه منذ عام 1773 كان أول تسجيل لكلمة الغرابة بمعنى ليس أمنا كي تتم الثقة به لتتكرر بمعان أخرى على نحو.. المكان الخطير وغير الآمن كما حدد الكاتب البرازيلي لويس بورخس ظهورها أول مرة في الأدب بعمل كتبه وليم بيكفورد يسمى فاتك حيث ذكر مصطلح الغريب لتتكرر بعد ذلك خلال القرن التاسع عشر لدى الكتاب مرتبطة بمقابلات مع الظل أو الشيطان وقد وصفت قلعة دراكيولا في الرواية المعروفة التي كتبها برام ستوكر بأنها قلعة غريبة بحيث سيطر الخوف عليها وأخذ بتلابيبها. لكن بعد أن بحث عن جذورها في كل اللغات القديمة والكتب التراثية خلص الكاتب إلى اعتبار كلمة الغرابة كلمة ثنائية الطبع أو ذات تناقض وجداني ومعرفي متزايد وأنها ذات صلة بكلمة بيت أو منزل وذات صلة بمعاني الغربة والاغتراب والغرابة والبعد عن المألوف وعن المنزل. بيد أن الغرابة لدى العرب كما يصفها الكاتب ارتبطت تاريخيا بمفهوم الوحشة المتعلق بعالم السحر والجن وبطبيعة المكان والتي من معانيها أيضا الوحدة والعزلة والخوف والتوحش والجوع فيحاول الناقد المصري في هذا الكتاب شرح المصطلح رغم تعدد أبعاده ودلالاته وتركيبه المعقد من حيث المعنى فيبحث لغويا وفلسفيا وسيكولوجيا عن معنى الغرابة مقارنا بينه وبين المعاني الخاصة بمفاهيم أخرى التبست عليه أحيانا مثل الغربة والاغتراب والتغريب لكن هل استطاع أن يوصل القارىء إلى شط الغرابة أو تركه غريبا وسط طبقات أركيولوجية لنصوص أدبية.