المنامة ـ بنا
نظم النادي السوداني بمملكة البحرين ندوة أدبية بعنوان (ثنائية الخيبة والحنين) والتي قدمها الناقد ناصر البهدير في ورقة نقدية معنونة باسم (قراءة على قارعة.. زجاجتان وعنق واحد)، بحضور سعادة السفير السوداني بمملكة البحرين عبدالله أحمد عثمان، وعدد كبير من المهتمين والمثقفين.
وحظيت الندوة بالمناقشات والمداخلات الثرة التي علق عليها الأديب كاتب الرواية الأستاذ عبدالمنعم عبد المنعم حسن محمود.
جديد الكتابة جاء هذه المرة متمهلاً وبعيداً عن السرديات المسخنة والمسيجة بخطوط نار التابو: الجنس، السياسة، والدين.. الثلاثيات التي أفردتُ لها كل شيء وأدخرت في مخيلة قراء الرواية.
لعل الموضوع الجديد في رواية (زجاجتان وعنق واحد) للكاتب عبد المنعم حسن محمود - الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي للدورة التاسعة 2010-2011م مناصفة عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي - محل وقفة وتدبر وقراءة جديرة بالمراجعة، حتى لا نفقد رواة يصعدون بأنفاس بعيدة عن سطوة زبد الايدولوجيا، والزيف العرقي، والطائفي المنثور في الكثير. وهذا ما يثير اللغط والجدال حوله باعتبار أن قوى الاستنارة دائماً ما تركز في قراءتها حول موضوعية وموضوعات الحكي وتوابله الحارقة، وليس طرائقه وجماليته وسمت أدبه، وما هو مرجو منه عموماً في المعالجة.
في البدء أعلن البهدير عن فخره واعتزازه عن تواصل المسيرة التي بدأها شيخ الرواة السودانيين الطيب صالح، قائلاً: "لن تنقطع طالما بين ظهرانينا كاتب وراوي مثل عبد المنعم حسن محمود، صاحب الفكرة المغايرة والأسلوب الشاعري الفريد والحكمة الساخرة. كاتب عبر بنا إلى زمن حاضر ومتخم خروجاً عن دائرة التقليدية".
وأضاف "من خلال عنوان الرواية- (زجاجتان وعنق واحد)- يتناسل التجريد والتفخيخ، وينفتح بوعي مستند على أمشاج فلسفية، ورؤى منطقية في كامل بهائها المضطرد، وتلاقحها مع المعرفي في الإتيان بفكرة ربما تكون مغالية لأصحاب النظرة المسطحة والبسيطة، والتي لا تبالي للتحولات التاريخية الماثلة خاصة إذا نظرنا إليها بعمق نجد أنها حبيسة مفازات تليدة".
وأشار الناقد البهدير إلى أن الرواية برمتها ومضامينها ورمزيتها وواقعيتها وسحرها الأخاذ نثرت عبيرها وما يكفي عن ظاهرة نبتت من نتاج تحولات عميقة جرت في المجتمع السوداني على مختلف الحقب التاريخية.
وقال إن الرواية أرادت الكل وطمحت إليه ونالت منه الجزء، وأرادت الجزء ونالت الكل. كل ذلك عبر ثنائيات فريدة مستقصية عوالم التسول والتشرد بفعل السياسي العضير، والتي لا تشبه ولا تمت بصلة لتاريخها المعروف ويتصدر هذا المعنى في الإهداء: [إلى من تشرد وتسول في هذا البلد بفعل فاعل]، مضيفاً "كما نلمس أثر ذلك في الشخوص؛ كاسح وغالب ومغلوب (الراوي) في مستويات تسول مختلفة، والراوي يؤكد ذلك بقوله: [تعددت وظائفنا أنا وكاسح وغالب في الشوارع واختلفت]".
تكمن جدلية الرواية في فخ عنوانها الملتبس على عدة تأويلات ومقاربات متباينة، والناظر إليه يجد المشقة في فك خيوطه من الوهلة الأولى، وهنا يبدأ الترميز في صعوده حتى نهاية أخر سطر من المتن الحافل بالكثير من سحر الكلمات والعبارات ونصاعة الأفكار التي تموج بالحراك.
وبين البهدير بأن الكاتب رفد متن الرواية من خلال حسه الاجتماعي ونظرته الايجابية في تحليل ضافي للأوضاع الاجتماعية ومظاهر الاختلال الذي فاقم من المثالب والظواهر في المجتمع وتنزلها على أرض الواقع كمسلمات جاءت نتاج الفعل السياسي بتداعياته.
وقال البهدير إن الرواية تقوم بفضح تلك العوالم المشحونة بالتقيح، الفاقة، والحرمان من خلال شخوصها، في لغة سردية بليغة وأسلوب مشحون بالمفردات الأنيقة، والعبارات الفلسفية، وتصاعد متناغم فريد لا يدخل القارئ في صراع، وهنا تبين عبقرية الكاتب وذهنيته المتواضعة في عدم استخدام أدوات الصراخ العالي. وبدلاً عن ذلك تماهى مع شخوصه إلى حد التقمص الكامل حتى خلت المشاهد من سيطرة وحش التابو السياسي.
في الأصل ومبتدأ الرواية كما ذكر الناقد البهدير تأتي الأحداث في تناسق مستقيم وتسلسل دائري كما جريان النهر في عنفوانه أو انخفاضه عبر فصولها الست: [حافة الهاوية/ شرق الخزان/ مماسٌ لـ لا الناهية/ أسوار/ في باطن الأرض/ غدد ونوافذ]. بل حتى داخل الفصل الواحد يجد المتابع لمستويات السرد أن الحوار ينتقل من مشهد لآخر كحال التنور في فورانه، أو مياه النهر في تدافعه وحراكه لا يقف على حال معين، وهكذا دواليك يستمر الإيقاع في صعود وهبوط دون إرباك في توالي مستقيم تارة وتارة أخرى في شكل دائري.
وأضاف "تأخذنا الرواية على مهل في براحات مختلفة ومتقاربة بتوالي بديع ما بين حقائق الأزمة الوطنية، ومتلازمات الحنين والشوق خاصة حينما تدور الرواية في فلك تشظيها ما بين المدينة والريف في ثنائيتها الموسومة بها".
وأوضح مقدم الورقة النقدية أن أحداث الرواية تجري على وتيرة الوحدة الثنائية وكأنها تستلهم الأنفاس الصوفية الحالمة التي تتنفسها هنا وهناك، وهي مسحة إيمانية عميقة وإشراق تصوف متعالي يشير إلى مكامن الخيبة الوطنية من خلال ثلاثة أجيال تمددت في حياتها عبر ثلاثة حقب زمنية منذ بدء الحكم الوطني (1956م) حتى الراهن المعاصر (ولعل استشرافها لغاياته تمثل في ثلاثية الأبطال؛ كاسح ومغلوب وغالب كشخوص رئيسة دار حولها المتن. والثنائية تسترسل في رؤاها ونبضها بدءً من عنوان الرواية ومروراً بدلالة الأسماء غالب ومغلوب، والممعنة في الهزيمة والنصر كقيم متضادة.
وقال البهدير إن الحوار أيضاً يدور ثنائياً ما بين الواقع والخيال في تداخل منساب، والذي خلق الكاتب منه فكرة مسرح الشارع واستغلالها الأمثل في الموقف الدرامي لصالح عملية التسول والتي تعتبر محور سرد الرواية وفكرتها الأساسية وصولاً لغايات أخرى أرادها الكاتب كقيمة من النص.
وبينت الورقة أن الرواية تستدعي الكثير من التاريخ وأعمقه استدعاء التاريخ السياسي عبر الجد عبد الغفور المثقف أحد شخوص الرواية، شقيق جد الراوي (مغلوب) من ناحية أمه.
وأضافت "وأيضاً بانت قدرة الراوي في استدعاء الماضي وتنصيبه كرؤى وأحلام، دون تصادم يمس متن الرواية، ويربك المشهد حتى حقب التاريخ تتداخل فيما بينها رغم بعد المسافات الزمنية، حين يستدعي الراوي قصة الجد الكبير، وفجأة يقفز إلى ماضي أبيه (رابح) دون إخلال بتدفق المشاهد على ذاكرته، مشبهاً أباه حبيس الجماعة في لغة رفيعة وسلسة: [لا يشذ أبداً عن سلم موسيقاه الخماسي]".
وقدم الكاتب بذكاء متقد أوصافاً لكل شخوصه، وقصد أن تكون متفرقة داخل النص كحال وصف الأزمة السياسية في تماهيها وتمددها.
في منحى آخر كما أوضح البهدير، "استطاع الكاتب توظيف الرمز في بعده الأسطوري بصورة مثلي، دون استغراق أو تكثيف لمضامينه، تماشياً مع الفلسفة التي استندت عليها الرواية في أسلوبها، وكذلك دون أن يخدش سياق الحوار أو يخل به، حيث سار بأسطورة سيزيف سيراً حفيفاً في مناحٍ عدة تلاقت في مقاربات لعبثية الأوضاع التي عاشت فيها شخوص الرواية حياتها. وكذلك استدعاء الرمز في بعده التاريخي والأدبي، وتجلى في العبارة؛ (وأنا انتعل خُفي حُنين).
واسترسل البهدير في نقده قائلاً: "هنا يغيب الجنس، وإن بدأ ظاهراً في مواقف قليلة جداً، وقد بان ذلك في الموقف الذي جمع الموظف والموظفة في مكتب عام وكانت أشارة عرضية. كما أن العلاقات الغرامية، والتي تتأسس عليها الكثير من الروايات لم تكن محل ترحيب عند الكاتب، وإن جاء حضور الأنثى (غفران) ابنة الجيران عابرة حيث دخلت حياة الشقيقين (غالب ومغلوب) وهى محاولة ملتبسة لإعادة التاريخ وتكراره في حالتي جديهما الكبيران (الجد غير المعروف باسم وشقيقه عبد الغفور): وهنا نعود إلى الثنائية في أرفع صعود زمني متأخر لها.
وأردف "غاص الكاتب في عميق جغرافية الأمكنة بدءً من الريف الفضاء الاجتماعي الأوسع للرواية، انتقالا للعاصمة الفضاء الأكثر اشتغالا بالحركة السياسية. ولكن غاب المكان الأكثر ضرورة كعادة متبعة في حضوره عند الكثير من الكتاب تلازماً مع واقع الحال؛ واختفى أثر المسجد والحانة كثنائية متضادة بفعل الخلق الإبداعي الذي سار بنا في مسارات أخرى جديدة".
وبين الناقد البهدير بأن الرواية كأنها تستقرا وتستشف حاضر ما يكون حينما تناولت مشهد (غالب) وهو أمام الموظفة حين نادته بصفته الأستاذ، ومنحته درجة الأستاذية بلا جهد من خلال عبارة بليغة ونبوة صادقة لمالآت الحكم الشمولي: [ودرجة الأستاذية التي بسببها كادت محاكم التفتيش أن تطلق إحداهنّ من زوجها لو لا نعمة الهروب خارج البلاد]. والتي تحققت في الراهن المعاصر قبل فترة قليلة لم تتعد الأشهر في حادثة المسيحية الشهيرة مريم.
على كل حال ترك الراوي الباب موارباً لأسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة، بالقطع ليست بمهمته وإنما هي مهمة الآخر.. واعني به القارئ الجيد، ولعل الكاتب يهنأ في توهانه في شعاب أخرى، ودروب نصوص أخرى حافلة بالكثير، وهذا قدره النبيل زرقاء يمامة ترى الخرابٌ الذي يُبصّره الأعمى بذات الرؤية وحدة ودقة الرصد.
ويبقى المبدع عبد المنعم حسن محمود راوي مختلف وخارج عن إطار المألوف، أفلح بكل جوارحه في الإجابة بحبكة وتداعي سلس عما حدث ويحدث وطنه.