فى مجموعته القصصية الأحدث «رأس الديك الأحمر» (2012 )، يستقطر الأديب الدكتور أحمد الخميسى براعته الفنية فى ست عشرة قصة قصيرة تتنوع بين الحكى الكلاسيكى، والقصة الرمزية، والواقعية السحرية؛ لكنها جميعا تشترك فى سخريتها اللاذعة من واقع اجتماعى وسياسى يثقل على النفس ويدفع العقل إلى حافة الجنون. فى إطار من براعة السرد وشفافية الأسلوب، وبلاغة الصور وعمق دلالاتها، يرسخ السرد لقيم إنسانية عالية. تأتى قصة «رأس الديك الأحمر»، التى منحت المجموعة عنوانها، بالغة الإيجاز مشحونة بالدلالات. فقد انفصل رأس الديك عن جسده، ذلك الرأس الراغب دوما فى الحرية، بينما الجسد يؤثر السلامة. أما الآن «فيتفجر البدن وحده بالمهانة المختزنة طويلا. يهتاج ثائرًا يفتش عن منفذ. يخطو بمفرده متخبطًا.. ترتعش كل خلية فيه بغريزة التفكير». الرأس والجسد، كلاهما يبحث عن حريته منفردًا. وأخيرًا يعثر البدن على طريق للخروج لم يخطر ببال الرأس: «فجأة، انفلت البدن. رفرف لأعلى. دار فى الهواء دورة عجيبة غير متوقعة. خفق جناحاه فى الأرض والسقف. اندفع إلى نافذة مفتوحة وانطلق منها إلى الحرية. تطلع الرأس إلى النافذة بنظرة خابية. لقد نجا؟! كيف لم تخطر النافذة على بالى؟!». بإيجاز بالغ يعبر الكاتب عن ثقته فى جموع الشعب، التى قد تتفوق على النخب بأن تعثر وحدها على طريق الحرية والخلاص. يأتى تاريخ النشر الأول لهذه القصة (أبريل 2012) ليعمق دلالة ارتباطها بثورة 25 يناير 2011 وما حدث من تفوق جماهير الشعب غير المسيسة على النخب السياسية، واقتناصها لحريتها من نظام فاسد جثم على صدرها زمنا طويلا. ويغلف الرمز أيضا قصة «تاريخ فقاعة»، ويتجه بها نحو الإسقاط السياسى. تدور القصة حول فقاعة تلتصق بجدار معدة رجل دولة رفيع المقام، بينما هو فى طريقه إلى إلقاء خطاب مهم، فتنغص عليه يومه. تحشد الفقاعة قوتها وتتصدى لمحلول القطرات المذيب، فتنتصر عليه، ومن ثم تزهو بنفسها وتدرك قدراتها الكامنة: «تصدت الفقاعة للقطرات بصمود مذهل. وبينما كان مفعول القطرات ينحسر ارتجف على الجدران الداخلية للفقاعة خيط هش وردى اللون من وعى محدود. وعى لا يمكن أن تسميه عقلا إلا مجازا. لكن ذلك الوعى ألهم الفقاعة ألا تستسلم للطرد والخروج، وربما هداها الوعى المحدود إلى فكرة أن فقاعة حية داخل معدة أفضل ألف مرة من فرقعة مجيدة. وحين تحللت الفقرات مهزومة دق فى قلب الفقاعة الشعور بقوة وجودها، فأخذت تقلص المصران وترخيه. تتواثب بداخله، تمطه وتمهله إلى أن اطمأنت إلى تأثيرها، فتضاعف وعيها بذاتها حدة، وواصلت حياتها نحو لحظة مجدها». ولا يخفى على القارئ الإسقاط السياسى الذى يلمح إليه الكاتب، من التبشير بالثورة وإرهاصاتها متمثلة فى مدى هشاشة النظام السياسى وضعف مقاومته، بعد أن انكشف زيف قوته وضعف حصونه، لا سيما أن القصة كُتبت فى أكتوبر 2010 (أى قُبيل ثورة 25 يناير بأقل من ثلاثة أشهر). وأتوقف عند قصتين من قصص المجموعة تستروح كل منهما نفحات القصة القصيرة عند أنطون تشيكوف ويوسف إدريس، فتتعالى فيهما النبرة الإنسانية انحيازا للفقراء والمهمشين، ممن يحرصون على قيم أخلاقية يفتقر إليها كثير من الأغنياء. ففى قصة «جلباب أزرق»، يلتقط الكاتب لحظة إنسانية فارقة. يسافر خليفة، الفلاح الفقير، من قريته فى الصعيد إلى القاهرة، قاصدًا أحدى المستشفيات الحكومية حيث توفى أخوه، لإجراء ترتيبات دفن الجثة فى مدافن الصدقة. وكان أحد جيران القرية قد أعار المتوفى جلبابه الأزرق، أفضل أثوابه، ليذهب به إلى القاهرة بدلا من ملابسه المهترئة المتسخة. بعد أن ينتهى خليفة من إجراءات دفن أخيه ينشغل بالبحث عن الجلباب الذى لم يجد له أثرًا، حتى إنه يدخل شاكيًا لمدير المستشفى، لكنه ينهره ويسخر منه. فيخرج من مكتبه يحدث نفسه: «ربنا يعطى الحياة وهو من يستردها. لكن الجلابية واخدينها من جودة؟». ويبقى خليفة مؤرقا بإعادة الجلباب طوال رحلة العودة إلى القرية، وعند مدخلها يتوقف «تحت السماء والنجوم التى تضوى فى الظلمة» يرفع عينيه للسماء يناجى ربه: «يا رب.. أنت من يعطى الحياة وأنت من يأخذها.. ماقلناش حاجة.. لكن الجلابية مش بتاعتنا. لازم نردها. يا رب». وفى قصة «صعيدى» ينفتح النص على حياة مجموعة من عمال التراحيل، ممن هجروا قراهم فى الصعيد وأتوا إلى القاهرة بحثا عن لقمة العيش. ورغم جوعه وشدة حاجته للعمل، يرفض الشاب الصغير القيام بعمل يتنافى مع مفهوم الرجولة كما يعرفها أهل الصعيد. يركب الشاب بجوار رجل جاء يطلب عاملا للقيام ببعض الأعمال بمسكنه، وعندما يعلم الشاب أن العمل المطلوب إزالة بعض بقع الطلاء من على الأرض يرفض بشدة: «الصعايدة مايشتغلوش فى المسح يا بيه». يغريه الرجل بمزيد من المال، لكنه يتمسك بالرفض: «مش حكاية فلوس.. الصعايدة مايشتغلوش فى المسح». وفى قصة «ومض» تبلغ رقة المشاعر وشفافية العبارات حدا تتحول معه القصة إلى نسيج حريرى بالغ الرقة غُزلت خيوطه من الواقع والخيال بإحكام شديد. يفقد الأستاذ الجامعى حبيبته وزوجته التى غيبها الموت، فيبقى أسيرا لذكراها وطيفها. وأثناء نومه يوقظه ومض يتوهج باللون البرتقالى، يكتشف أنه إنسان أضناه الحب فشف وصار طيفًا: «حل علىّ الذهول حين رأيت أمامى طيفًا مجسمًا بلون برتقالي، بدون وجه. ترتعش أطرافه متوهجة. يسطع ويختفى منه خيطان مضيئان كذراعين.. تجمدت محدقا به». ويقطع الطيف الصمت بينهما: «توقعت أنك ستفزع عند رؤيتى.. الناس لا يتعرفون على السحابة عندما تغدو مطرًا، على الشجرة عندما تصبح حريقًا». وعندما يسأله عن هويته يجيب بأنه «طيف إنسان.. تشف المعادن فى النار والبشر فى العشق. إذا طال العشق وزادت أشواقه يشف الإنسان حتى يغدو طيفًا. الكون عامر بأطياف أرواح عاشقة». حقيقة يصعب الإلمام بكل قصص المجموعة فى تلك العجالة، فكل منها يحتاج مقالًا منفردًا. ولكن يبقى القول إن «رأس الديك الأحمر» مجموعة قصصية «تربت على النفس وتنبه الوجدان وتناجى العقل». وكما يقول الكاتب إبراهيم حمزة، فى مقدمته للمجموعة، فإن «ثمة جوهرًا نورانيًا فى الإبداع يُحس ولا يُمس، وقراءة هذه المجموعة فسحة للروح تسمو بها وتطهرها، تضحكها أحيانا، وتبكيها، وتدعوها فى كل الأحوال لتأمل حياتنا».