اتسم معرض الفنانة عناية بخاري الذي استضافه مقهى هيشون في اللاذقية لمدة أسبوعين وضم خمسين عملا فنيا بمناخات هي الأقرب إلى التصوف والسريالية ولا سيما من حيث بساطة مفرداتها وطريقة صياغة التفاصيل الصغيرة التي تغني اللوحات مجتمعة لتنقلها الفنانة بمنتهى الحرفية والإبداع من حيز العادي إلى حيز المدهش وهو الأمر الذي أثار شهية النقاد خلال أيام المعرض ممن قدموا تصورات عديدة حول أسلوب الفنانة بخاري وطروحاتها الفنية. حول المعرض ذكرت بخاري أنها أهدت لوحاتها المعروضة إلى بلدها الجريح سورية متمنية أن يعود الخير والسلام والأمن إلى ربوعها التي كانت طوال تاريخها مركزا للحضارة والخير والسلام والجمال مشيرة إلى أن المزهريات الملونة التي تزخر بها لوحاتها هي مزهريات طينية تفيض بالحب ترتبط بالإنسان الذي خلق بدوره من الطين وفي هذا إعادة تذكير بالإنسان السوري الذي لا يزال في قمة الإنسانية والحضارة. وأضافت: أن قواريري الفنية التي رسمتها وعرضتها في المعرض هي قوارير مفتوحة دون أغطية لها كناية عن وجود الأمل فهناك دائما الأفق الواسع والتطلع إلى المستقبل بإيجابية فأنا لا أتطلع إلى الشكل السلبي أبدا وهو ما يتأكد في التلافيف التي تزين أعلى القوارير إذ أنها إيحاء للشجرة والأرض التي تواصل عطاءها واستمراريتها دون توقف. وأوضحت أن الحكمة من مشروعها الفني الحالي تتلخص في رجوع الناس إلى "نفوسهم المؤمنة" و إلى بعضهم البعض في أجواء من المحبة و التآخي التي سادت قرونا من الزمن في هذه البقعة المقدسة من الأرض ولذلك فإن في هذه الأعمال دعوة متجددة للسوريين ليعودوا إلى حضن سورية الدافئ الذي ما ضن عليهم يوما بشيء من الألفة والدفء والحنان مما نفتقده اليوم بشدة. من ناحيته ذكر الناقد محمد أحمد سموقان أن الفنانة عناية بخاري القادمة من دمشق لتعرض في اللاذقية هي ذات حضور مميز في ساحة الفن التشكيلي السوري فمن الطبيعي أن تقدم أعمالا تقنع المشاهد وتشده ولا سيما أن هذه الأعمال فيها قفزة كبيرة على صعيد التشكيل رغم أنه يرى من وجهة نظره أن الفنانة تعمل على الشكل الجمالي أكثر من المضمون أي أنها تركز على ما له علاقة بفن الإعلان وفن الزخرفة. وأضاف سموقان: أن للحالة الزخرفية خصوصية معينة كما هو الحال في الفن الإيراني والصيني وهذه الإشكالية عادة ما تضع المشاهد ضمن حالة من التساؤل حول تكوين العمل الفني حيث وجدت في أعمال الفنانة مساحات فيها الكثير من الحرية والحركة بمعنى آخر فيها فضاء متسع وخلفيات مريحة تمكن المشاهد من التفاعل مع هذا العمل. وأشار إلى أنه بالنسبة للجرار والمزهريات فهناك من يرسم جرارا قديمة من أجل أن يضعها في السياق التاريخي لكني أجد في هذه المزهريات شيء من جسد المرأة المصاغ على نحو تجريدي وهو اختزال للطريق الذي اختارته الفنانة في اشتغالها الفني مع التأكيد على أنه طريق صعب جدا ربما تصل معه في المستقبل إلى شيء يقنع المشاهد بشكل أكبر. ورأى الفنان والناقد غازي عانا أن لوحات بخاري تتسم بفضاء منفتح على التجريب فيتسع للمدى ويضيق بأمنيات فنانة حاولت تجسيد بعض من أحلامها في تمثل الطبيعة وروح المادة في لوحاتها التي تنوعت بين الرسم بالأسود والأبيض على الورق والزجاج والمرايا وأخيرا على القماش إن كان ذلك من خلال التصوير بأنواعه المختلفة أو عبر بعض الأحبار التي استخدمتها لإنجاز العمل طباعيا بتقنية الشاشة الحريرية. وأضاف: أن من يتابع تجربة الفنانة في تلك العوالم المتباينة من الاشتغال والتي تختلف أيضا بنتائجها من حيث أشكال التعبير المعاصرة والحداثية في الوقت نفسه لا بد أن يكتشف ببساطة كم هي فنانة مجتهدة في بحثها عن المختلف بحدود الممكن تقنيا وتشكيليا عن ذاتها الفنية من خلال سعيها الحثيث إلى تطوير أدواتها والتمكن منها ومن جملة المواد التي تستخدمها خلال زمن الإنجاز الذي يطول بحسب رغبة الفنانة وما تريد إيصاله من دهشة تحمل في ظاهرها جماليات أنيقة ولكن بالضرورة لا بد أن تتضمن النتيجة البصرية لكل منها طاقة تعبيرية تفوق ما يمكن تصوره على الأقل للوهلة الأولى من تلك الأشياء البسيطة التي انتقتها بعناية من مشاهداتها وما بقي منها في المخيلة والذاكرة القريبة. وقال عانا: "إن ما يميز لوحات هذه المجموعة في تجربة الفنانة بخاري والتي اختارتها لهذا المعرض ذلك الإيقاع والموسيقا التي نستشعرها من حرج استقرار تلك الأشكال من الجرار والمزهريات بالتوازي مع التناغم اللوني فيما بين كل مجموعة على حدا وهي هنا لا تهتم بالبحث عن القيم النغمية في اللون أكثر من سعيها إلى تحقيق الانسجام في تجاور تلك الكتل اللينة والمتمايلة مع ما حجزته من فراغات بينها في الكادر الذي ضمها برغبة من خلال تكوين حر وحيوي يضيف بعض الأهمية على العمل المغتني أصلا بتنقلات الضوء ودرجاته على الزخارف والتقطيعات الهندسية التي ربطت العناصر ببعضها ومع الخلفية التي تظهر دائما على نفس المستوى من المشاهدة بعد إلغاء المنظور منحازة بذلك إلى فهم الفنانين الفطريين ومستفيدة من الميزات الجمالية لذلك الشكل من التعبير الفني الأقرب إلى الفولكلور". وأشار إلى أن لوحات بخاري تطرح مجموعة من الأسئلة المتصلة بجرأتها على اختيار موضوعات شديدة البساطة وتقديمها على نحو من التعبير المغاير وهذا قود إلى طريقة توضع تلك الألوان بتناقضاتها وصراحتها على تلك المساحات الكبيرة نسبيا فهي أسئلة مشروعة لا شك ولكن لا بد من التأني والتمعن بالمشاهدة التي تستحقها تلك اللوحات التي ربما ستتكفل بالإجابة كما ستتيح لنا هذه الحالة من المشاهدة التعرف على جانب من طريقة تفكير الفنانة بدءا من كيفية استحضارها لتلك العاديات وكيف تهيئ لبعض التفاهمات فيما بينها من حيث تناغم الأشكال وتداخلها بهذه الحميمية التي تفيض بروحانية تتجاوز طبيعة تلك المواد وقوامها ليضيف اللون فيما بعد مصداقية تؤكد صعوبة بل استحالة تلك المصالحات خارج نظام اللوحة المحكوم بالزمان والمكان. ولفت إلى أن الفنانة تحيل مفرداتها التشكيلية إلى أشكال مدهشة من شدة بساطتها بعد تحويرها وتلوينها وإدخال بعض الزخرفة على السطح لتبدو أقرب في تشكيلها إلى ما نشاهده في أعمال السرياليين مستفيدة من قيمة التضاد اللوني عند كاندسكي حين تعامل مع اللون والخط بمنطق إيقاع موسيقي بحت كما تذكرنا بتنقلات الضوء واللون على الأشكال الهندسية المرصوفة بعناية في لوحات بول كلي. وتابع عانا.. إن ذلك الحضور البهي للبساطة التي تتسم بها لوحات الفنانة بخاري يعيد لتلك الأشياء قيمتها التي فقدتها بحكم اعتيادنا على مشاهدتها بشكل سطحي وكأنها بذلك تعيد لها الروح بحرارتها التي نستشعرها من خلال عكسها لحالة متداخلة من الرؤيا حول تلوينها للضوء أم إضاءتها للون الذي ميز كل مفردة أو حتى كل جزء منها وهذا يحيلنا بطبيعة الحال إلى مراحل عملها وهي عديدة ومتنوعة بطبيعة اشتغالها على أكثر من تقنية وشكل تعبيري والأهم في هذا أن جميع تلك التنقلات في الموضوعات والأساليب لم تؤثر على تلك السمة التي تظهر في جميع أعمالها والتي لا تعرف حتى الفنانة ماهيتها ولا قوامها إذ تتنقل باللاوعي من مربع إلى مجاوره ومن تجربة إلى أخرى لتعلن في كل مرة أن وراء الشكل حالة هي أقرب إلى الروح.