بغداد - نهال قباني
يعمل الحلاق قاسم داوود بجد ونشاط كالفنان، يتحرك بمهارة وثقة باستخدام مقص الشعر في قرية الحسيني في شرق العراق، حيث يعتبر مهنته مصدر فخر واعتزاز كبير له، فهو يحب مهنته وخاصة تزيين الشوارب بشكل جيد. وبنى داوود سمعة كبير في القرية التي يفخر بها، وكشف أنه عندما حاول أخذ استراحة قصيرة من عمله قبل بضع سنوات تحول زبائنه ببساطة إلى منزله لأنهم لا يريدون غيره.
وكان داوود يحب سماع القصص التي يحكيها له زبائنه وهو يقص شعرهم، فأصبح صالون الحلاقة الصغير محلًا للتعبير عن أمال ومخاوف جيل من الشباب العراقيين في محاولة للتعامل مع صعود تنظيم "داعش" المتطرف في شرق العراق. وكان محل حلاقة داوود مكانا سعيدا حتى العام 2014 وهو العام الذي دخل فيه "داعش" اليه. وعلى الرغم من أن العراق مر بالكثير منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 إلا أن قرية الحسيني كانت تعيش حياة طبيعية معظم الوقت. ويعد معظم زبائن داوود من الشباب، حيث لا تسمح الأعراف الاجتماعية للرجل أن يقص شعر إمرأة، ولا تختلف الأحاديث في صالون الحلاقة عن "القيل والقال" في أي مكان آخر. ويقول داوود " يتحدث الناس عن حياتهم وبيوتهم وأعمالهم وزوجاتهم، بطبيعة الحال يخبروني عن حياتهم العاطفية".
واستولت داعش في يناير/ كانون الثاني 2014 على مدينة الفلوجة التي تقع في محافظة الأنبار على بعد 200 كيلو متر إلى الجنوب الغربي، وبعد بضعة أشهر بدأ التنظيم هجوما على جميع أنحاء العراق، واستولى مسلحوه بسهولة على العديد من المناطق من الجيش العراقي. وفي ربيع هذا العام دخل التنظيم السُني الإرهابي محافظة ديالي حيث تقع قرية الحسيني، ما جعل الحديث في صالون حلاقة داوود يتحول إلى المقاومة في ظل وحشية التنظيم المتطرف.
وتابع داوود " أراد الكثير من الشباب الانضمام إلى الجيش أو قوات البشمركة الكردية وشجعتهم بالطبع على ذلك لأنه أفضل بالنسبة لهم"، وغادر الشباب القرية واحدا تلو الأخر لحمل السلاح ضد تهديد داعش، وفي يونيو/ حزيزان وصل عناصر التنظيم إلى قرية جلولاء ودمروا المباني الإدارية والبنية التحتية وحرقوا السوق المركزي وفجروا المسجد الرئيسي للشيعة في البلدة قبل إعدام المؤذن، فيما خاضت القوات الكردية صراعا بائسا لعرقلة مسار المتشددين إلى بغداد وفر نحو 80 ألف من سكان البلدة.
وتدفق العديد من النازحين إلى قرية الحسيني فأصبح صالون الحلاقة مشغولا طوال الوقت، وجاء إليه الكثيرون لحلق شعرهم حتى أن داوود لم يكن قادرا على إنهاء عمله حتى الساعات الأولى من الصباح. وأفاد داوود بأن هذه الفترة كانت فترة شك وعدم يقين حيث لم يعد يثرثر اللاجئون بسبب ظهور داعش في العديد من الانقسامات العرقية والطائفية في البلاد، ما غذى الشعور العميق بالشك والاضطهاد. وكان معظم النازحين من المسلمين السنة ويُنظر إليهم باعتبارهم خطرًا محتملا من قبل السلطات الكردية المحلية. ومع اجتماع الكثير منهم حول صالون حلاقة داوود أصبح داوود نفسه محل شك. وفي أواخر يونيو/ حزيزان اعتقلته الشرطة الكردية، وقالوا له قبل حبسه في سجن قريب أثناء البحث عن أدلة على أي صلة مع المسلحين: " النازحون الداخليون يدعمون داعش فهل أنت تدعمهم؟"، وحتى يشغل نفسه عرض داوود قص شعورهم في انتظار التحري عنه واغتنم الفرصة محاولا جمع معلومات حول مصير قريته.
وتابع داوود: "الشرطة تحب نمطا مختلفا من قص الشعر يختلف عن القرية، إلا أن الشباب يحبون أن يلتزموا بأحدث التسريحات في قص الشعر"، وبمرور الوقت أطلقت القوات الكردية سراحه بعد التأكد من عدم وجود أي روابط بينه وبين داعش، وقدروا مهاراته في الحلاقة حتى أنهم طلبوا منه البقاء وإنشاء متجر له بجانب السجن، وبحلول الوقت عاد داوود إلى قرية الحسيني بعدما ترك داعش القرية اثر معركة شرسة مع الميليشيات المحلية، وبعد أشهر من استعادة السيطرة على القرية منع الأكراد السكان من العودة إلى ديارهم أثناء قيامهم بتطهيرها من العبوات الناسفة ، وبدت مداخل القرية مدمرة، ففي أحد المداخل كان الهيكل الوحيد المتبقي هو مرحاض، فيما بدا منزلا مدمرا جزئيا ومحاطا بعلامات حمراء تحدد موقع الألغام، وكان أحد الصواريخ مر عبر الحائط تاركا شكلا يشبه النجوم وحفرا في الجدار،ولم يكن أحد المقيمين في المنازل على علم بالتقدم الأخير لداعش وعاد إلى منزله ليجد اثنين من المسلحين يحتسون الشاي في غرفة معيشته، وعلى الرغم من أن مستوى الضرر أقل حدة مما كان عليه في بعض المدن الأخرى المحتلة لفترة أطول من داعش إلا أن الضرر كان كافيا لانهيار الاقتصاد المحلي.
ويقول عاطف زكريا مدير البرنامج المحلي لمنظمة "أوكسفام" والتي تدعم الناس للعودة إلى منازلهم بعد الفرار من داعش " لقد تم نهب وحرق المحلات وتحطمت أنظمة المياة والكهرباء، ويستغرق الأمر الكثير لإعادة تشغيل الأسواق مرة أخرى في مناطق العائدين"، وتضرر الاقتصاد العراقي من خلال الأزمة المزدوجة بسبب صراع داعش والانهيار العالمي في أسعار النفط حيث توقفت مشاريع البناء والاستثمار الأجنبي. وفي كردستان وشرق العراق تبدو المباني نصف فارغة ما يعكس الانكماش الاقتصادي المفاجئ الذي ترك الكثيرين بلا عمل حتى في المناطق التي تسيطر عليها داعش، وعندما ذهب داوود إلى متجره في وسط القرية وجده محطما والجدران عليها آثار طلقات نارية، وقال عندما رأى الضرر للمرة الأولى " إن الله سينتقم منهم"، وكان كل ما تركوه مقعدا مكسورا حتى أن المرايا اختفت.
وأحرق منزل داوود لكنه يشك أن ذلك كان نتيجة شجار محلي وليس بواسطة داعش، وتابع داوود " لم يمكنني حتى النظر إليه، لذلك استأجرت مكانا أخر تم قصفه ولكن تم تنظيفه واستئجاره، وأصبح الحديث مختلفا بعد الأزمة، وأصبح الزبائن يخبرونني عن غضبهم إزاء البطالة وهم لا يعرفون ما يحمله لهم المستقبل في ظل عدم وجود فرص عمل أو مال"، واعتاد الكثير من الناس العمل في جلولاء إلا أن المصانع هناك دُمرت أو أغلقت، واعتاد الأخرون على تصنيع مركبات للحمولة على جانب الطريق أو بيع بضائع للمارة المسافرين، إلا أن حركة المرور اختفت بعدما فجرت داهش الجسر الرئيسي إلى المدينة.
ويسمع داوود القليل من القصص الرومانسية هذه الأيام، وفي ظل عدم وجود مال أو عمل لم يعد الشباب قادرين على تحمل الخروج من منزل والديهم وتأسيس عائلة، وأضاف داوود " لقد توقفوا عن التفكير في الزواج، أنا لا أشكو أبدا لكني أستمع لهم و قلبي يكبر بهم بسبب حديثهم".