تونس -تونس اليوم
يعشن منذ سنوات على بصيص من الأمل في معرفة مصير أبنائهن، هكذا هو حال المئات من الأمهات التونسيات ممن فقدن التواصل مع فلذات أكبادهن بعد أن عبروا البحر سرا باتجاه إيطاليا بحثا عن مستقبل آمن لم يجدوه في بلدهم. فرغم المجهودات المضنية والوقفات الاحتجاجية والمطالب المتكررة التي وجهتها إلى السلطات الرسمية التونسية منذ سنة 2010 إلى اليوم، لم تحصل عائلات المفقودين في الهجرة غير النظامية ولو على نذر قليل من المعلومات يطفئ هواجسها حول أماكن تواجد أبنائها. هذا "التجاهل المستمر" لملف المهاجرين المفقودين، قاد اليوم العشرات من عائلاتهم إلى اتخاذ خطوات تصعيدية، من بينها اعتزامهم الاحتجاج أمام السفارة الإيطالية، يوم الثلاثاء المقبل، والدخول في إضراب جوع تقول أمهاتهم إنه لن يتوقف إلا بالحصول على إجابة رسمية عن سؤال وحيد وهو "أين أبناؤنا؟".
صرخة الأمهات وروت رئيسة جمعية "المصير لشباب المتوسط" ووالدة أحد المفقودين في الهجرة غير النظامية، منيرة الشقراوي، لـ "سبوتنيك"، كيف أنها كابدت طيلة 11 سنة من أجل الحصول على معلومات عن ابنها الذي عبر البحر إلى إيطاليا قبل الثورة.
تقول الشقراني إن الشيء الوحيد الذي يصلها بالحياة اليوم هو معرفة مصير ابنها الذي هاجر سرا إلى إيطاليا مع خمسة من طلبة الجامعات سنة 2010 دون أن يصلها خبر منه إلى اليوم.
وتعتقد الشقراني أن ابنها اختفى اختفاء قسريا، مضيفة: "كل القرائن والشهادات الصادرة عن القنصل آنذاك تؤكد أن المجموعة التي هاجر معها ابني وصلت بسلام إلى إيطاليا ولكن أخبارهم انقطعت بعد ذلك بشكل كلي وإلى اليوم لا نعلم أماكن تواجدهم".
ولا تستبعد الشقراني أن يكون ابنهما قد وقع ضحية لتجارة بيع الأعضاء خاصة في ظل تواتر المعطيات التي تؤكد حالات المتاجرة بالمهاجرين غير الشرعيين.
وتروي الشقراني معاناة العشرات من الأمهات اللاتي تحوّلت حياتهم إلى حلقة بحث مفرغة عن مصير أبنائهن، قائلة: "معظم الأمهات تجاوزن سن الخمسين والستين باستثناء الزوجات اللاتي فقدن أزواجهن في الهجرة غير النظامية ومع ذلك يتكبدن مشقة السفر إلى العاصمة من أجل المشاركة في التحركات الاحتجاجية أو في الاجتماعات القليلة مع المسؤولين".
ولفتت المتحدثة إلى أن الجمعية تمكنت من معرفة مصير 4 من المفقودين في عملية الهجرة إلى لامبادوزا سنة 2014 ومكان دفن 4 منهم، ولكن السلطات التونسية ترفض حتى مطالبة الجهات الإيطالية بمقارنة الحمض النووي مع الجثث لمعرفة هويتهم. وقالت الشقراني إن جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد بعد الثورة تجاهلت ملف المفقودين في الهجرة غير النظامية، ونقلت كيف أن رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي حذرهم من الخوض في هذا الملف الذي قد يوقف الاعتمادات التي تتلقاها الدولة التونسية لقاء مقاومة الهجرة غير النظامية. وتابعت: "حتى لجنة التحقيق التي تشكلت في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي تم حلها بعد رحيله دون الكشف عن نتائجها"، مشيرة إلى أن عائلات المفقودين تلقت وعدا من الرئيس الحالي قيس سعيد بالمضي قدما في هذا الملف ولكن لم يتم السماح لهم بمقابلته رغم المطالب المتعددة بذلك.
وقالت: "جميع الحكومات عوّلت على عامل النسيان، ولكن الأمهات لا تنسين أبنائهن ولا تسكتن عن حقوقهن، كما لم تنسَ النساء في كوسوفو أبناءهن من ضحايا حرب التقسيم في 1998، وكما لم تنسَ النساء في لبنان أطفالهن في حرب 1982".
أين أبناؤنا؟
وتشارك منجية الغبنتيي (60 سنة) معاناة الفراق مع مئات الأسر التونسية، بعد أن انقطعت عنها أخبار ولدها "ريان" الذي عبر البحر من جزيرة جربة باتجاه إيطاليا منذ سنة 2019.
تقول منجية لـ"سبوتنيك": "غادر ابني إلى إيطاليا مع مجموعة من أصدقائه عبر قارب صيد وهو في عمر السبعة عشر عاما دون علم منا.. تغيرت حياتنا منذ ذلك اليوم ولم نذق طعم الفرحة أو الطمأنينة". ريان كان أصغر المهاجرين في القارب الذي غادر في رحلة مجهولة العواقب إلى إيطاليا، تقول عائلته إنه غادر مقاعد الدراسة في سن مبكرة والتحق بالعمل مع والده في مجال الصيد البحري الذي تقتات منه العائلة منذ سنين. إلى أن قرر أن يستخدم المحرك الذي يستخدمه والده في عبور المتوسط.
تضيف منجية: "لا نريد شيئا من الدولة سوى أن تخبرنا بمكانه وبوضعيته الحالية حتى لو كان ذلك يعني إخبارنا بوفاته، أريد أن يبرد قلبي وأن يتوقف عقلي عن التساؤل".
أكثر من 5 آلاف مفقود
وقال رئيس جمعية الأرض للجميع، عماد السلطاني، الذي فقد بدوره الاتصال باثنين من أبناء إخوته، إن النضالات المستمرة التي خاضتها عائلات المفقودين في الهجرة غير النظامية منذ الثورة لم تثمر عن معرفة مصيرهم.
وأضاف لـ "سبوتنيك"، أن الجمعية قدّمت أدلة وشهادات تثبت دخول المفقودين في الهجرة غير النظامية إلى التراب الإيطالي، لكن السلطات التونسية لم تتفاعل معها بجدية ولم تتخذ خطوات عملية في متابعة هذا الملف، مشيرا إلى أن السلطات الإيطالية غالطت بدورها الرأي العام بالقول إن المفقودين لم يدخلوا إلى ترابها.
وتابع: "حتى اللجنة المكلفة بالبحث عن المفقودين التي أفرزتها نضالات العائلات في 2015 تم قبرها، رغم أنها نشرت بالرائد الرسمي آنذاك وتعهدت بالكشف عن مصير المفقودين خلال سنة واحدة بعد الاستماع إلى شهادات العائلات والجمعيات الحقوقية التي تعنى بهذا الملف والجهات الإيطالية، وها أننا اليوم في سنة 2021 لم نتلقَ أي إجابة أو نلمح إرادة للتحرك".
ولفت السلطاني إلى أن السلطات الرسمية لا تريد الكشف حتى عن الأعداد الحقيقية للمفقودين، حيث قدرت وزارة الشؤون الاجتماعية عددهم بـ 504 بين سنتيّ 2010 و2012، في حين اشتكت العائلات من فقدان نحو 2000 من أبنائها خلال تلك الفترة. وأكد أن عدد المفقودين بين سنتي 2010 و2021 فاق خمسة آلاف شخص وفقا للمعطيات التي جمعتها الجمعيات من العائلات، منتقدا غياب الإرادة السياسية لوقف هذا النزيف. واعتبر السلطاني أن السلطات التونسية فشلت في التعامل مع هذا الملف وأنها تتهرب من مطالبة الجهات الإيطالية بالكشف عن مصير المفقودين بسبب الإعانات التي تتلقاها من إيطاليا. وقال السلطاني إن هذا التجاهل قاد عائلات المفقودين في الهجرة غير النظامية إلى اتخاذ خطوات تصعيدية من خلال تنظيم وقفة احتجاجية أمام سفارة إيطاليا في تونس يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 والدخول في إضراب جوع مفتوح عن الطعام إلى حين الكشف عن مصير المفقودين.
قد يهمك ايضا
حجز 11 صفيحة من مخدّر القنّب الهندي في العاصمة التونسية
25 حالة وفاة و604 إصابة جديدة بكورونا في تونس