بغداد – نجلاء الطائي
جلس بضع مئات من الرجال ممن هربوا عبر خطوط القتال الأمامية في موجة نزوح للاجئين من مدينة الموصل العراقية على الأرض في طوابير أمام ضابط من المخابرات العراقية كان يتفحص الحشد بحثًا عن متشددين متنكرين. وقد جذب الضابط فتى ودفعه للوقوف على منصة وسأل المجموعة إن كان ينتمي الى تنظيم "داعش". سرت همهمات مكتومة تبعتها إيماءات بالرأس وتعليقات بأصوات منخفضة.
وبعد ذلك جرى اقتياد الفتى إلى شاحنة صغيرة وقد قيدت يداه خلف ظهره. واعترف بأنه كان عضوا لثلاثة شهور في تنظيم الدولة الإسلامية وأنه أمضى أسبوعا في معسكر تدريب لكنه قال إنه كان يقوم بأعمال الطهي ولم يحمل سلاحا قط.
ومع تزايد أعداد السكان الذين يهربون من المعارك بين المتشددين والقوات العسكرية العراقية التي تسعى لاستعادة الشطر الغربي من ثاني أكبر مدينة في العراق من التنظيم تقوم وحدات أمنية بنقل المدنيين إلى مخيمات تديرها الحكومة واستئصال المتسللين من الدولة الإسلامية بينهم.
وبعد مرور أكثر من أسبوع على بداية الهجوم على آخر معقل حضري للتنظيم في العراق تسلل نحو 14 ألفا من السكان من المدينة وبدأوا مسيرة طويلة عبر صحراء جرداء. ومعظم هؤلاء من النساء والأطفال والعجائز لكن يوجد أيضا مئات من الشبان الذين يتعين فحصهم من قبل قوات الأمن.
وكان الجميع جوعى وعطشى بعد ثلاثة أشهر من وقوع الأحياء الغربية تحت حصار فعلي من القوات الأمنية. وأصيب بعضهم خلال تبادل إطلاق النار في معركة قد توجه ضربة قاصمة لطموحات الدولة الإسلامية في الاحتفاظ بأراض.
وقد يضطر قرابة 400 ألف شخص لترك منازلهم أثناء الهجوم الجديد المدعوم من الولايات المتحدة والذي بدأ هذا الشهر بعد أن انتهت القوات العراقية من تطهير الأحياء شرقي نهر دجلة الذي يقسم المدينة الواقعة في أقصى شمال العراق.
وقال ضابط المخابرات الذي تحدث لرويترز شريطة عدم نشر اسمه إنه استخرج سبعة يشتبه في أنهم أعضاء بالدولة الإسلامية يوم الأحد وهو أول يوم في عملية النزوح الجماعي من غرب الموصل. وشاهدت رويترز أربعة آخرين قيد الاحتجاز يوم الاثنين. واضاف الضابط "المقاتلون لا يخرجون" وتابع: أن الموالين للتنظيم المتشدد لكنهم يلعبون أدوارا غير قتالية بشكل أساسي سيحاولون أكثر من غيرهم على الأرجح التسلل للإفلات من حملة الاعتقالات.
ووقف أحد "المصادر" وهو شاب نحيل يرتدي قناعا أخضر لإخفاء هويته مع ضباط المخابرات فيما سلمت دفعة جديدة من الرجال بطاقات الهوية ليتم فحصها في قاعدة بيانات على الكمبيوتر. ومعظم أعضاء الدولة الإسلامية يقتلون في معارك رغم أن القوات العراقية قبضت على عدد منهم أحياء على مدى الأسبوع المنصرم بعضهم من جمهوريات سوفيتية سابقة والصين.
وقال ضابط المخابرات إنه تعلم كيفية التعرف على المتعاونين مع الدولة الإسلامية من الطريقة التي يتصرفون بها معه. وأضاف: "يمكنك أن تعرف ذلك لأنهم يكونون خائفين. الذين لا يعملون مع داعش يشعرون بالخوف أيضا لكنه شعور مختلف عن الخوف الذي يشعر به من يعملون مع داعش."
وتابع الضابط "لدينا آلية. لدينا أسماء ومصادر لكن حتى مع ذلك فنحن لا نعرفهم جميعا. لكن هناك أناس يتعاونون. معظمهم يتعاونون."
وكان القمع والوحشية اللذان اتسم بهما حكم الدولة الإسلامية في الموصل دافعا واضحا للبعض في تلك المجموعات المحتجزة للاستجواب إلى الكشف عن أنصار الدولة الإسلامية بينهم.
وقال الضابط "الناس يتعاونون لأن عامين مدة طويلة لتكون فيها تحت ضغط مستمر." وتابع بقوله "عندما تسأل .. من بينكم ينتمي لداعش.. سيشير أناس إليهم ويقولون لقد قاموا بكذا وكذا. مثلما فعل هؤلاء الشباب.. هذا الصباح أحضرت أحدهم وسألت إن كانوا يعرفونه. نهض اثنان منهم وقالا إنه من داعش."
وذكر مسؤول مخابرات أميركي طلب عدم نشر اسمه أن بعض مقاتلي الدولة الإسلامية هربوا من الموصل ومدينة الرقة السورية وسط فوضى القتال لكن الحصار الذي فرضته قوات
مدعومة من الولايات المتحدة على المدينتين قلص مخاطر أن يهرب المتشددون لينفذوا هجمات في مناطق أخرى.
يصل الناس إلى موقع الفحص المبدئي خلف خطوط القتال إلى الجنوب مباشرة من الموصل وقد غطاهم الغبار. وكان بعضهم محمولا على محفات أو على ظهور آخرين. وفي العادة فإن السجائر هي أول شيء يطلبونه. والتدخين كان محظورا في عهد الدولة الإسلامية لكن الكثيرين كانوا يخاطرون بالتعرض للجلد في مقابل بضعة أنفاس من الدخان.
وهرب معظم موردي البضائع وزادت الأسعار بشكل جنوني في غرب الموصل منذ أن قطعت القوات العراقية آخر طريق غربا يؤدي إلى أراض يسيطر عليها التنظيم في سوريا قبل ثلاثة أشهر. وعاشت الكثير من الأسر على الخبز وحده تقريبا.
وقال رجل عجوز كان ينتظر الفحص الأمني إن بعض الناس لاقت حتفها في منازلها من الجوع. وقال "لم يكن هناك شيء نشتريه. لدينا المال لكن ماذا يمكنك أن تفعل.. هل تأكل المال؟" وتابع قائلا "المشكلة ليست في أن الأسعار مرتفعة بل أن الطعام غير موجود. وقد اضطر بعض الناس لترك أقاربهم الموتى في منازلهم."
والرحلة من غرب الموصل محفوفة بالمخاطر وكثيرا ما يتفرق أفراد الأسر دون أي تأكيد بأنهم سيرون بعضهم مرة أخرى أو أين سينتهي بهم الحال.
ويقول مدنيون إن الدولة الإسلامية استهدفتهم بقذائف المورتر وقناصة على طول الطريق الذي يستغرق ساعة على الأقل سيرا على الأقدام ونصف ساعة أخرى من التكدس في شاحنات عسكرية.
وفقد راعٍ يبلغ من العمر 16 عاما قطيعه الأسبوع الماضي عندما سقطت عليه قذيفة مورتر. وذبح الصبي الحيوانات المصابة وباع اللحم إلى رجال الشرطة العراقية الذين يقومون على تأمين المنطقة.
وخلال هذا الأسبوع جلست الأسر القرفصاء في خندق بالصحراء المفتوحة في انتظار شاحنات لتحملهم في المسافة الباقية من الطريق. واستغلت بعض النساء الفرصة لخلع النقاب وارتداء حجاب ملون يظهر الوجه وهو ما كانت الجماعة المتشددة.
وكان داود ضرغام يركب حافلة في طريقها إلى مخيم تديره الحكومة بعد الهرب من قرية قرب مطار الموصل. وقال إنه يشعر بالقلق من المستقبل. وأضاف قائلا "هناك حد لما يمكننا احتماله. نحن بشر من لحم ودم."
وفي وقت لاحق كان الفتى الطاهي الذي اكتشف أنه من أنصار الدولة الإسلامية يرتدي سترة رياضية زرقاء ويجلس على سطح شاحنة بينما ألقي عليها بثلاثة رجال آخرين غطت رؤوسهم أغطية وسائد.
وعندما بدأ ضابط المخابرات يوجه إليه المزيد من الأسئلة أغرورقت عينا الفتى بالدموع. وقال له الضابط بنبرة شابها بعض العطف "لا تبكي" قبل أن تنطلق الشاحنة مخلفة وراءها سحابة من الغبار.