طرابلس ـ فاطمة السعداوي
حصلت مجموعة من نشطاء حقوق الإنسان وكذلك المليشيات، على وثائق من موقع تابع لوكالة الاستخبارات الخارجية الليبية التابع للعقيد الراحل معمر القذافي، في سبتمبر/ أيلول 2011، وذلك أثناء الحرائق المستمرة بفعل الثورة الليبية، ووجدوا في هذه الوثائق اتصالات سرية بين القذافي ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، وكذلك المخابرات البريطانية والأميركية، ومنظمة الأمن الخارجي الليبية.
تعاون مخابرات أميركا وليبيا وبريطانيا
وأظهرت هذه الوثائق من دون أدنى شك أن جميع الوكالات الثلاث شاركت في خطف وتعذيب اثنين من معارضي القذافي، وهما عبد الحكيم بلحاج وسامي السعدي، وعلاوة على ذلك، فقد شاركوا أيضًا في عمليات الخطف وسوء المعاملة القاسية لزوجات الرجلين، وهما فاطمة بودشار وكريمة السعدي، وأطفال السعدي الأربعة، أصغرهم في سن السادسة، وكانت السيدة بودكار حاملا، أربعة أشهر ونصف عند أختطافها.
واخُتطفت العائلتين في بانكوك وهونغ كونغ، ونقلا جوًا إلى العاصمة الليبية طرابلس في عمليات التسليم السري المنفصلة لمدة 17 يومًا، في مارس/ آذار 2004، وخلال ذلك، زار بلير لأول مرة طرابلس، واحتضن القذافي وأعلن أنهما يعملان سويًا في قضية مشتركة ضد تنظيم القاعدة والتطرف.
الوثائق تؤكد كذب بريطانيا
ووُثقت هذه الوثائق ككذبة تعويضية كررها المسؤولون الحكوميون البريطانيون عندما أثيرت إدعاءات بالتورط في انتهاكات حقوق الإنسان بعد 11 سبتمبر/ أيلول: أن الحكومة لم "تشارك أو تطلب أو تشجع أو تتغاضى" عن استخدام التعذيب.
و قال جاك سترو، وزير الخارجية البريطاني بعد ثلاث سنوات من عمليتي الترحيل، وقبل ست سنوات من اكتشاف الملفات السرية في طرابلس،، للنواب إن التقارير الإعلامية بشأن الانتهاكات ما هي إلا نظريات مؤامرة، وأنه ببساطة لا توجد حقيقة في الادعاءات بأن المملكة المتحدة متورطة في عمليات التسليم السري.
ووضع هذا الاكتشاف حدًا لهذا النفي، وأظهرت الوثائق أن المخابرات البريطانية قد زودت المخابرات التي سمحت لوكالة المخابرات المركزية باختطاف بلحاج وسعدي، زعيمي الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وكانت الجماعة الإسلامية المقاتلة ميليشيا إسلامية رفضت أجندة القاعدة العالمية، وركزت بدلا من ذلك على الإطاحة بالقذافي، وكانت حليفا للمملكة المتحدة حتى هجمات 11 سبتمبر/ أيلول في نيويورك والتي أدت إلى قلب النظام الجيوسياسي العالمي رأسا على عقب.
دعاوى قضائية ضد المسؤولين البريطانيين
وسُلمت نسخًا من أوراق طرابلس لشركتين قانونيتين في لندن، ولم يتم رفع دعاوى ضد مكتب الخارجية والمخابرات البريانية فحسب، بل ضد سترو والسيد مارك ألين، الرئيس السابق لمكافحة التطرف في المخابرات البريطانية.
وأعلنت الحكومة أن عمليات الترحيل الليبية ستكون من بين الحالات التي تم التحقيق فيها من قبل تحقيق غيبسون، الذي تم تأسيسه العام الماضي لدراسة مزاعم تورط المملكة المتحدة في انتهاكات حقوق الإنسان خلال عمليات مكافحة التطرف.
وأعلنت شرطة سكوتلاند يارد، بعد بضع أشهر، أنها أيضًا تحقق في تورط المخابرات البريطانية في عمليات التسليم، وعند هذه النقط، أوقفت الحكومة التحقيق الذي أجرته غيبسون، معتبرة أنها لا تستطيع مواصلة عملها وسط تحقيقات الشرطة، وبدلًا من ذلك، فإن لجنة الاستخبارات والأمن، وهي مجموعة مكونة من النواب وأقرانهم، قالوا إنها ستشرف على الأجهزة الاستخبارية، وستفحص الأمر، ولكن اللجنة لم تبلغ بعد.
وكان واضحًا منذ البداية أن المشتبه به الرئيسي في التحقيق الذي تجريه الشرطة سيكون ألين، والذي ظهر اسمه على عدد من الرسائل التي أرسلت بالفاكس إلى رئيس استخبارات القذافي، موسى كوسا، ومن المعروف أن ألن أرسل رسالة بالفاكس يهنئ فيها كوسا على الوصول الآمن لبلحاج، قائلا "كان هذا أقل ما يمكن أن نقدمه لك ولليبيا لإظهار العلاقة الرائعة التي بنيناها على مدى السنوات الأخيرة"، مضيا "طلبت وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي كانت قد قدمت الطائرة لإحدى عمليات التسليم، طلبا بأن المخابرات البريطانية توصل جميع طلبات المعلومات الخاصة ببلحاج من خلالهم.
عائلتي الرجلين يرويان تفاصيل التعذيب
وأجرت بودكار مقابلة توضح فيها كيف تمت عملية الوصول الآمن للشحن الجوي، وقد أُخرجت هي وزوجها من رحلة في بانكوك، وذهبا إلى مركز احتجاز في مكان ما داخل المطار، وبينما كان يتم تعذيب زوجها، كانت مغطاة ومقيدة بالسلاسل لمدة تصل إلى خمسة أيام، وفقط تم إعطائها الماء، وتركوها جائعة.
وكان خاطفوها ثلاثة أميركيين ملثمين،ورجلين وامرأة، وقالت "كانوا يعرفون أنني حامل، كان واضحا، ولكنني أجبرت على الاستلقاء على نقالة قبل الرحلة إلى طرابلس، وربطوني، من الرأس إلى القدم، بشريط لاصق، كانت عيني اليسرى مغلقة عندما تم لصق الشريط، لكن عيناي اليمنى كانت مفتوحة كان عذاب".
استغرقت الرحلة 17 ساعة، طوال الرحلة، كانت بودكار قادرة على سماع زوجها وهو يصرخ من الألم، قائلة "لقد كان مكبلا بطريقة تضمن أنه لا يستطيع الوقوف أو الجلوس"، وعند الهبوط تم نقلهما بشكل منفصل إلى السجن، ويقول بلحاج إن التعذيب بدأ على الفور، وتم إطلاق سراح بودكار قبل وقت قصير من الولادة.
ووصفت خديجة، ابنة السعدي الكبرى، كيف أُجُبرت عائلتها على ركوب طائرة، كان عمرها 12 سنة في ذلك الوقت، وأُخُبرت هي وأشقائها، مصطفى، البالغ من العمر 11 عاما، وأنيس، البالغ من العمر تسع سنوات، وشقيقتها أروى، ستة أعوام ، بعدم التحدث إلى بعضهم البعض.
وقالت " كانت والدتي تبكي، أخبرتني أنهم يأخذونا إلى ليبيا، كنت خائفة جدا، ظننت أن والدتي وأبي سيتعرضان للتعذيب وسنقتل جميعنا، قيل لي قولي وداعا لوالدك، كان مقيد اليدين، وكان أحد ضباط المخابرات الليبية يضحك بجانبي".
واحتُجزت خديجة وأمها وأشقائها لمدة شهرين ونصف، احتُجز بلحاج والسعدي لمدة ست سنوات، وقالا إنهما تعرضا للتعذيب المتكرر، كما طُلب منهم سلسلة من الأسئلة صاغتها المخابرات البريطانية وسلمتها إلى الأمن الليبي، كان هناك أكثر من 1600 سؤال من هذه الأسئلة.
استجوب ضباط المخابرات البريطانية أيضا الرجالين شخصيا، كما تم تعليق بلحاج من ذراعيه وضربه.
بريطانيا أرادت التقرب من القذافي
ويبيّن تحليل وثائق طرابلس أن عمليات التسليم كانت مجرد جزء من التقارب بين لندن وطرابلس، والذي يبدو أنه كان شأنًا معقدًا مدفوعًا أكثر من ضباط المخابرات أكثر من الدبلوماسيين، وكانت هناك جهود أيضا لإقناع القذافي بالتخلي عن طموحاته النووية والكيميائية، فضلا عن صفقات استكشاف النفط والغاز، والاتفاقات التجارية والعلاقات الشخصية.
وكان من بين الملفات رسالة من بلير إلى القذافي، بدأت بـ "عزيزي معمر"، ثم شكره على التعاون الممتاز لموظفي المخابرات في بلدانهم، وأعرب عن أسفه من أن المحاكم الإنجليزية رفضت مرة أخرى ترحيل عضو من الجماعة المقاتلة.
وتظهر أوراق طرابلس أن بعض الأسئلة التي تم تسليمها إلى الليبيين كانت تهدف إلى الحصول على معلومات يمكن أن تبرر احتجاز ومحاولة ترحيل أعضاء الجماعة الذين كانوا يقيمون بسلام في المملكة المتحدة لسنوات عديدة.
الحكومة البريطانية تدافع عن مسؤوليها
وعلى الرغم من ثروة الأدلة الوثائقية على تورط المملكة المتحدة في هذه الانتهاكات، قاومت الحكومة الإدعاء الخاصة ببلحاج وبودكار، وبحلول بداية العام الماضي، أنفقت الحكومة 750 ألف جنيه جنيه إسترليني للدفاع عن نفسها، بما في ذلك 110 ألف جنيه جنيه إسترليني للدفاع عن ألن و 500 ألف جنيه إسترليني للدفاع عن سترو.
ويبدو أن الوزراء والمحامين الحكوميين قاوموا هذه المزاعم ليس لأنهم كانوا مترددين في سداد المدفوعات، حيث تعويض السعدي مقابل 2.2 مليون جنيه إسترليني في عام 2012، ولكن لأنهم لم يرغبوا في الاعتذار، وقد أوضح السعيدي أنه لا يريد المال، ولم يحصل على أي أموال، لكنه كان يريد اعتذارا، خاصة لزوجته.
الضحايا يريدون إعتذارا والبريطانيون يرفضون
وحين قررت دائرة التاج البريطاني عدم مقاضاة المسؤولين، أثار الأمر غضب بعض المحققين في القضية، وسعى محامو بلحاج إلى مراجعة قضائية القرار، ولذلك أصبح الاعتذار غير وارد.
وتضمنت تسوية يوم الخميس اتفاقًا يقضي بأن يتم التخلي عن محاولة إجراء مراجعة قضائية، وبالتالي أصبح المسار واضحًا أخيرًا للاعتذار وتسوية القضية التي طال أمدها.
ويزعم بعض المشاركين في عمليات التسليم أنها جزء من عملية أدت إلى تخلي القذافي عن برنامج أسلحة الدمار الشامل الخاص به، رغم أنه فعل ذلك قبل ثلاثة أشهر، ومن ناحية أخرى، كانت إحدى الوثائق التي اكتشفت في طرابلس هي تقييم المخابرات البريطانية، للجماعة المقاتلة، مكتوب بعد 10 أشهر من اختطاف العائلتين.
ولاحظ التقرير أن احتجاز الرجلين وضع الجماعة في حالة من الفوضى، ودفعها إلى الاقتراب من القاعدة، وكذلك تحول جدول أعمالها المناهض للإسلاميين المناهضين للغرب.